سجن النسا.. أزمة الحدود والتواصل

يدور مسلسل سجن النسا حول عدد من النسوة والأحداث التي أدت بكل منهن لارتكاب جريمة أدخلتها إلى سجن النسا بالقناطر، وفي مقالنا نتناول تحليل أزماتهن الحقيقية الكامنة وراء الأحداث، والتيمة الموحدة التي يدور مسلسل سجن النسا حولها رغم تعدد القصص.

سجن النسا، مسلسل اجتماعي أطلق في رمضان 2014م، سيناريو وحوار مريم نعوم وهالة الزغندي، إخراج كاملة أبو ذكري، بطولة نيللي كريم، درة، روبي، ودنيا ماهر.

سجن النسا


لتجربة أفضل:


غالية.. سجانة وسجينة سجن النسا

تتلخص قصة غالية (نيللي كريم) في سجن النسا في أنها كانت تعطي لزوجها صابر (أحمد داوود) الأموال لكي يبني لنفسه عملاً ناجحاً كسائق ركاب، إلا أنه كان ينفق الأموال على ملذاته، ما جعله يتورط في أزمة ضد صاحب السيارة، ترتب عليها أن قتل الرجل على يد صابر، ولكن الأخير لفق التهمة لغالية. 

لم تكن الأزمة في إعطاء غالية الأموال لمساعدة زوجها، كما لم تكن قدرة صابر على التلاعب وقلب الطاولة المحرك الرئيسي للمشكلة، ولم تكن الأزمة فقط في أن غالية لم تطالب بأن يكتب عقد السيارة باسمها، أو حتى تشارك صابر فيها. وقد استغل صابر عدم نضج غالية حين ماتت زوجته الأولى، وعاد لغالية فقال لها إن هذه الأموال كانت من أجل أن يثبت قدميه في حياته المادية، ولا علاقة للأمر بزواجه، أي أنه يحيد بها عن خداعه لها وخيانته، ويدعي الامتنان لها على مساعدتها له. ومن العظم بمكان اللحظة حين يطيل صابر النظر إلى عيني غالية فيستشعر أنها متأثرة بما يقول، قبل أن يتحرك فيجلس على السرير ويشعل سيجارة، في حين تجعل غالية تصرخ فيه أن يغادر في غير رغبة حقيقية في ذلك. لم تكن الأزمة كذلك في أن تسامحه غالية وتعطيه فرصة أخرى، إنما الأزمة الحقيقية في الاعتياد على عدم الاحترام، للحد الذي جعل غالية -وإن كانت قد اقتنعت بأن صابر تورط في الزواج من غيرها- لا تهتم بأنه لم يوضح لها ذلك وقتها، وتركها تتحسر وتتخبط، بل اتصل بيها في بيتها يوم زفافه وتوقع أن تجيبه، وحين ماتت زوجته هاتفها وجعلت تواسيه! أزمة غالية الحقيقية ليست في أنها سامحت صابر، ولكن الأزمة في صياغة ما حدث ومآله إلى عودة صابر والاعتذار وطلب الغفران، لسنا نقول إن غالية ما كان عليها أن تغفر، ليس الغفران كذلك هو الأزمة، الغفران شيء جميل، ولكنه لا يعني بالضرورة الاستمرار في العلاقة مع من أخطأ.

وهنا قد يتساءل البعض عن فائدة الغفران إذا لم نعيد التواصل، وحينها يبرز مكمن الأزمة الذي نريد أن نقول، وهي اقتران الغفران باستمرار العلاقة، هنالك حدود معينة إن تجاوزها الشخص لا يصح عندها الاستمرار معه في علاقة، وهي حدود احترام الطرف الآخر وتقديره. يمكن أن نغفر للشخص ما فعل دون أن نعاود التواصل معه، لأنه حين يتجاوز المرء عن عدم التقدير، يستحيل أن تؤول الأمور إلى غير الضعة والهوان، باختلاف شكلها ودرجتها، وحينها نجد أنفسنا في نظر الخصم مسؤولين عما حدث، لذلك صرخ صابر في غالية وكذلك نوارة قائلان إنها تدرك بالضبط ما تفعل، لذلك كانت غالية السجانة والمسجونة.


حياة.. والحياة في سجن النسا

كانت حياة (دنيا ماهر) في مسلسل سجن النسا أماً ثلاثينية لطفلين، تعاني صعوبات في التواصل مع الناس، مثل أن تتعرض للتحرش أو السرقة ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، أو تعبر عن غضبها بأي شكل من الأشكال، ولو حتى بأن تنظر للمعتدي في عينيه. ما جعل تلك الضغوطات تتشكل في وساوس قهرية عنيفة، تراودها بخصوص الحفاظ على حياة طفليها من الأخطار، فتقرر في النهاية قتلهما وزوجها، وكذلك تحاول قتل نفسها معهم لتحميهم من خطر الدنيا، ولكن يموت الجميع دونها وتدخل مستشفى الأمراض العقلية. 

هنا بجانب أن الأزمة الحقيقية كما أشرنا تكمن من البداية في عدم قدرة حياة على التواصل والتعبير عن نفسها بشكل سليم، فإن الأزمة ترجع كذلك إلى الخوف المفرط على حياة الأبناء، وذلك يدخل في إطار أزمة الحدود والتواصل في المجتمع المصري، فمن عاداتنا المجتمعية الذميمة ذوبان الحدود بين ذوي القربى، ومن ثم بين جميع أفراد المجتمع. وذلك ما يدفع الناس من ناحية إلى مضايقة حياة في عملها وفي الشارع وغيره، وما يدفعها من ناحية أخرى إلى الاهتمام المفرط بحماية أبنائها من المخاطر، في حين أن المخاطر في الحياة حتمية، وإن المرء لا ينبغي أن يتقوقع حتى لا يتعرض لها، وإنما عليه أن يتعلم كيف يواجهها. وذلك ما لم تتعلمه حياة، وما لم يتعلمه الكثير من النسوة في مجتمعنا بحكم الذكورية وكبت الإناث، ما جعل حياة تعيش في سجن النسا دون أسوار، وحين دخلته ورحبت بالحياة فيه وأملت أن تعدم، قضي عليها بالذهاب للمصحة العقلية فكان بمثابة عقاباً لها. كان موتُ حياةِ حياةً والحياةُ موت، لشد ما تتعقد أوضاع النساء في مجتمعنا تحت وطأة الجهل وفقد احترام الذات.


دلال.. الغفران والاستقلال في سجن النسا

عملت دلال (درة رزوق) في مسلسل سجن لكي تنفق على تعليم أختيها الأصغر، وكذلك عملت رضا (روبي) من أجل الإنفاق على تعليم إخوتها الذكور، وهنا ليست الأزمة فقط في أن تعمل الأخت الكبرى لمساعدة أختيها، وليست كذلك فقط في أن تعمل أنثى من أجل الذكور، ولكن الأزمة الحقيقية أيضاً في الحد الذي يجب أن تتوقف عنده المساعدة، ففي مجتمعنا نسمع كثيراً عبارة: لقد أفنيت حياتي من أجلك، ويكون الرد غالباً مثل الذي قالته شقيقة دلال إنهما لم يطلبا منها ذلك.  ورغم أن أزمة دلال في سجن النسا تبدو ظاهرياً وأنها قسوة الأم وجحود الإخوة، إلا أن الأزمة الحقيقية في المساعدة المفرطة التي قدمتها دلال لأهلها، وكذلك اهتمامها المفرط بإرضاء الأم، حتى بعد أن اعتبرتها ميتة. 

ولا يتعارض ما نقول مع بر الوالدين وود الأقارب، وإنما نريد -كما أشرنا إلى الاقتران الخاطئ بين الغفران والتواصل- أن نوضح عدم تعارض البر مع تقدير الذات، فلو تحلت دلال بشيء من الاستقلال العاطفي، لما حاولت أن تلبي احتياجات شقيقتها لدرجة التضحية بشرفها، ولما سعت كل ذلك السعي من أجل غفران الأم. وربما لو كان المجتمع يتحلى بهذا الاستقلال وذلك النضج، لما اعتبرت الأم أن دلال ملعونة لمجرد أنها سارت خطوتين في طريق مشبوه، ولما نبذها كرم خطيبها بغير هوادة لمّا دخلت السجن مظلومة، فالغفران قرين الاستقلال، والتسامح قرين النضج، لو كان للمجتمع القليل من هاتين الصفتين لما كانت حياة هؤلاء النسوة لتؤول إلى ما آلت إليه.


القصص الفرعية في سجن النسا

ظهر في مسلسل سجن النسا العديد من الشخصيات الفرعية، مثل عزيزة وبكيزة ودرية المفترية وأشجان، ولكل منهن قصة مشابهة لقصة البطلات اللاتي تناولنا وسنتناول تحليل وشرح أزماتهن. 

كانت عزيزة (سلوى خطاب) تدخل السجن بدلاً من زوجها، وتعتني ببنات السجن كأنهن بناتها، ولكن إحداهن لم تعرف كيف تتعامل مع المودة والاحترام التي قدمتهما لها عزيزة، ويمكن القول إن عزيزة كذلك كانت تغالي في الاعتناء بهن، ما يدخل في إطار أزمة الحدود والتواصل، فخانت الفتاة عزيزة، وتزوجت من زوجها، وعاقبتها عزيزة أبشع عقاب. وكذلك دخلت درية السجن بدلاً من ابنها، وكان جزاؤها أن هاجر الولد خارج البلاد، غير مبال برغبتها في قربه منها. ودخلت أشجان السجن لقتلها زوجها دفاعاً عن عرض ابنتها، وقد قالت لابنتها في آخر زيارة إنه ما من شيء يساوي أن ترفع رأسها وسط الناس! ولسنا هنا نقول إن الدفاع عن العرض ليس بالأمر المهم، أو نهون من فعلة زوجها ضد ابنته معاذ الله، وإنما نشير إلى الاهتمام المفرط برأي الناس، وتدخلهم في حياة بعضهم البعض للدرجة التي تجعل من الأم تتبرأ من اختها وابنتها مثلما فعلت أم دلال، وللدرجة التي جعلت من أشجان تقابل موتها بصدر رحب، وتراه هيناً أمام احترام الناس لابنتها.

وقد كانت كل تلك القصص أقل غرابة من قصة اللصوص من النساء، الهنجرانية، الذين في عرفهم ينفق النساء على الرجال بالكامل، فنرى إحداهن تصرخ على أختها لأنها لا تتكفل بمصروفات بيتها، ما دفع زوجها لأن يخرج للعمل! ونرى الرجال ينوحون عند القبض على نسائهم. كان هذا الخط الدرامي أكثرهم مفاجئةً من حيث التناقض الصارخ، والتركيب الغريب للأوضاع في أحد مناحي مجتمعنا المصري.

أما عن زينات (اللي بتزوق البنات) فلم تكن متصلة بشكل قوي بتيمة الحدود والتواصل، إلا إذا اعتبرنا أن تعدي الدكتورة على جسدها وأعضائها أحد أشكال انتهاك حدود الآخر، وقد كان مرض زينات بالفشل الكلوي غير ذي علاقة بعملها كبائعة هوى، وكان من الأفضل درامياً أن يكون مرضها نتيجة لعملها، ولكن يمكن اعتبار ذلك من سمات واقعية مسلسل سجن النسا، حيث إن الأحداث في الحياة لا تكون دائماً مترابطة بهذا الشكل الدرامي المحكم، كما أن الله حين يبتليها في غير ما أسرفت، يمكن أن يكون ذلك دلالة على رحمته بها، وغفرانه لذنوبها.


رضا.. سجن النسا والحدود والتواصل في ظروف مغايرة

تدور قصة رضا (روبي) حول نزوحها من القرية وعملها كخادمة من أجل الإنفاق على تعليم إخوتها الذكور، فتتعرض للقهر في أول الأمر من موظفتها، وفي التجربة الثانية تواجه العكس تماماً، فيحرص أهل البيت على تقريبها إليهم فور قدومها، ما يجعلها بمرور الوقت لا تطيق رفض ابنة موظفيها أن تشاركها ثيابها، ويحتدم الصراع بينهما حتى تشعل رضا النيران في جسد الفتاة.

إلى أي مدى ينبغي على المرء أن يتقرب من غيره؟ وعلى أي أساس يتقرب الناس من بعضهما البعض؟ قصة رضا في سجن النسا شأنها شأن بقية القصة، تبدو في ظاهرها شيء وفي باطنها شيء آخر، فظاهر الأزمة أنها احتقار الأغنياء للفقراء الذي يعملون لديهم. ولعل التجربة القاسية التي واجهتها رضا أول الأمر في القاهرة -حين اتهمت بالسرقة وامتهنت إثر ذلك- عزز اعتقادها في ذلك، ولكن الأزمة الحقيقية تكمن في أن أهل البيت الثاني اعتبروها إنسانة مقربة لهم دون داعي. لسنا نقول إن الخدم ينبغي وأن يعاملوا بغير احترام، للمرة الثالثة ينبغي أن نفصل الاقتران الخاطئ بين أمرين، بين الاحترام والقرب، ينبغي أن يعامل جميع الناس باحترام، بغض النظر عن وظائفهم ومستواهم المادي وعن أي شيء آخر، ولكن لا يصح أن نتقرب من شخص دون أن يحدث بيننا تواصل لفترة كافية، ونجد لديه خلال هذه الفترة ما يدفعنا لأن نستشعر ذلك بالفعل، فيحدث التوافق العقلي والأخلاقي بيننا، لا أن نتقرب منه منذ البداية، ونحن نقرر أن يكون قريباً منا دون أي مبرر. هذه المساحة التي قررتها الأسرة دون داعي دفعت رضا لأن تأخذ الأمور بحساسية شديدة، وتدعي الحق فيما لا حق لها فيه، لسنا نقول إن سخرية أهل البيت من لهجتها وسلوكها مبرر ومشروع، إنما نقصد أن رضا ليس من حقها بالفعل أن تدخل غرفة دليلة دون استئذان، وتستبيح خصوصيتها وملابسها، والمحزن أن رضا حتى آخر لحظة كانت تعتقد أن الأزمة هي الفارق بين الأغنياء والفقراء.

لشد ما يقع الالتباس وتكاد تضيع الحقيقة حينما تذوب الحدود، فلأن رضا جاءت محملة باضطهاد مسبق، تعاملت بضغينة مسبقة تجاه المسافة الطبقية بينها وبين موظفيها، ولأن رضا فاقدة للقدرة السليمة على التواصل، لم تعرف كيف تتعامل مع المساحة التي أعطاها لها أصحاب البيت، فاستباحت ما لا حق لها فيه، واشتعلت نيران الغيرة من دليلة، والثورة على أبيها الذي يصر على شقائها من أجل إخوتها الذكور. ولأن محاولة التقرب من أهل البيت كانت غير مدفوعة بود حقيقي ما لبث أن وقع تنمر على رضا، وتحول الود المصطنع في مشاهد المواجهة بين رضا ودليلة إلى تعمد للإذلال والامتهان الفج، فتأججت النيران وتمثلت حقيقة في فعل رضا ضد دليلة..

نيران التفرقة والقهر والغيرة والثورة والفهم الخاطئ، نيران المجتمع الجاهلة..

سجن النسا هو المجتمع وليست الأسوار والحراسة..

تم.

أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال