السينما الشكلية.. شرح نظرية أيزنشتاين في السينما - الجزء الأول

في هذا المقال شرح نظرية المخرج الروسي سيرجي أيزنشتاين في السينما من خلال عرض رؤية أيزنشتاين للمادة الخام في السينما والطريقة التي تعالج بها، وكذلك الشكل الناتج عن تلك المعالجة، وأخيراً الغرض من السينما كفن.

ايزنشتاين


عن المخرج الروسي سيرجي أيزنشتاين

كان المخرج سيرجي أيزنشتاين صانع أفلام ذا قدرة عظيمة، مما أدى إلى حظو كتاباته عن السينما باهتمام واسع من عدد كبير من القراء، ولم يستخلص أيزنشتاين نظرية الفيلم خاصته بناءً على فلسفة راسخة مثل مونستربرج، نظراً لكون أيزنشتاين مفكراً نشطاً ومدققاً، لذلك اتسمت أبحاث أيزنشتاين بالفروض الغريبة المقتطفة من قراءاته المتفرقة بأربع لغات مختلفة خلال عمره.

(أقرأ: نظرية مونستربرج في السينما)

اهتم سيرجي أيزنشتاين بموضوعات تعد ولا تحصى، حيث لم يكن ممن يعتنقون عرفاً واحداً ينمونه بانتظام، فنجد في مقاله "اللون والمعنى" في كتابه "الإحساس الفيلمي" قد جمع كماً هائلاً من المقولات حول نظرية اللون، وبرغم أهمية القائمة، إلا أن حماسه في البحث وسرد المصادر حال دون ترتيب الأفكار وفك تشابكها، فكان الكثير مما ذكر لا يمت نظرية الفيلم السينمائي بصلة. اتسمت كتابات سيرجي أيزنشتاين بالتلقائية والتعبير عن دراما الاكتشاف، فتجده يخوض علوم متنوعة: الأجناس والاقتصاد والتاريخ وغيرها، بحثاً عما يؤيد وحيه التلقائي، أو يكتب مقالاً غير متوقعاً فيبدو وكأنه التقى بالكتب والأحداث من خلال المصادفة، ويشرح فيه جانباً معيناً في نظرية الفيلم خطر له وهو يشاهد مسرحاً ما. وحتى بين أي مقالين من مقالاته نجد أيزنشتاين ينتقل فجأة من موضوع لآخر، لذلك ظهرت بوضوح صفة الصدمة في أفلامه، والتي كانت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، وفي نفس الوقت يطالب أيزنشتاين المشاهد باستبيان النغمات التوافقية بين لقطات فيمله، وكذلك مقالاته، فبرغم أن أسلوب أيزنشتاين ومقالاته تبدو عشوائية، إلا أن أيزنشتاين له طريقة جدلية للتفكير لا تتضح إلا بالنظر إلى أفكاره على أن إحداها تصف الأخرى، مع الاحتفاظ بإحساس الكفاح الذي مرت به أفكار أيزنشتاين على جميع المستويات، والالتفات إلى أن التناقض هو ما منحه طاقة جعلته صاحب نظريات منتجاً لأكثر من ثلاثين عاماً.


مقدمة عن نظرية السينما

نظرية السينما هي مجموعة من المحددات التي يعمل صانع الفيلم في إطارها، وتعبر النظرية عن كيفية فهم صاحب النظرية للوسيط السينمائي. والهدف من نظريات الفيلم هو استنباط معادلة تنظيمية لإمكانات الفيلم السينمائي، حتى يتمكن هذا الوسيط من التطور.

في كتاب نظريات الفيلم الكبرى حدد الكاتب دادلي أندور أربعة رءوس رئيسية لاستخراج نظرية الفيلم، وهي العناصر التي تكون الفيلم السينمائي، وهي:

1-  المادة الخام: وسيلة التعبير في السينما.

2-  الطريقة والتقنية: طرق معالجة المادة الخام.

3-  الأشكال: شكل الفيلم السينمائي الناتج عن المعالجة.

4-  الغرض والقيمة: ما فائدة صناعة الفيلم السينمائي.


 تصادم سيرجي أيزنشتاين مع نقل الواقع وابتكاره نظرية التحييد

عند التحاق أيزنشتاين بالمستعمرة الفنية بموسكو، رأى أن النشاط الفني نشاطاً للصنع والبناء، لذلك اهتم أيزنشتاين بمسألة المادة الخام، ولم يرق له الأفلام التي تنتج حينها، "مسرح موسكو الفني عدوي اللدود، لأن كل اهتمامه هو نقل صورة طبق الأصل من الواقع"، قال أيزنشتاين. ثم قام البنيويون بتفتيت جوانب المسرح إلى قطع صغيرة يمكن أن تنضم إلى بعضها حسب رغبات المخرج، ورأوا أن المناظر لا يجب أن تكون خلفية للحوار، بل تُكافئه في الوظيفة وتتحاور معه، وكذلك الإضاءة والقوالب والملابس، كل العناصر لابد أن تتعايش في انسجام ديموقراطي لا في هدم إقطاعي. وفي المسرح كان سيرجي أيزنشتاين يبحث عن وسائل لتفتيت الواقع إلى أجزاء نافعة يستطيع المخرج أن يصوغها، وسمّى أيزنشتاين عملية التفتيت هذه "التحييد". حيث رأى أن المسرح والسينما كذلك شأنهم شأن الموسيقى والرسم، إذ تعتمد الموسيقى على تحييد الصوت، أي تفكيكه إلى وحدات السلم الموسيقي، والرسم يعتمد على تحييد الألوان، وترتيبها مرة أخرى بطريقة معينة حسب رؤية المؤلف الموسيقي لتعطي دلالة معينة. ثم رأى سيرجي أيزنشتاين أن كل عنصر لا يجب أن يكون له دلالة خاصة به، فمثلاً لا ينبغي أن يدل اللون الأحمر على الرغبة ولا الأصفر عن الغيرة، إنما تتضح معاني الألوان من علاقاتها المتبادلة بين ذراتها المحيَّدة. وكذلك رأى أيزنشتاين أن اللقطة -المادة الخام في السينما حسب نظرية بودوفكين وهو منظر سينمائي سبق نظرية أيزنشتاين- لابد أن نحيد بها حتى تصبح عنصر شكلي أساسي، يمكن أن تجمع حسب المبادئ الشكلية التي يريدها المخرج. والغرض من التحييد هو التحويل والاشتراك في جماليات الفيلم، فيمكن من خلاله إحداث تأثير واحد من عدد من العناصر المختلفة، وتتواجد في الفيلم السينمائي عناصر عديدة على الشاشة في وقت واحد، تقوي إحداها الأخرى، وقد تتصارع العناصر فيما بينها وتخلق تأثيراً جديداً، وقد يُحدِث عنصر غير متوقع تأثيراً ضرورياً، وهذه ذروة التحييد والتحويل، ففي فيلم المدرعة بوتومكين إخراج أيزنشتاين، حين تقول السيدة البرجوازية على السلم "دعونا نرجوهم"، لم يجيبها أحد بكلام قيل أو كتب، إنما بلقطة ظهرت بها الظلال الممتدة للجنود على السلم، والتي أحدثت تأثيراً خلاقاً.


تجربة سيرجي أيزنشتاين مع مسرح الكابوكي.. الأسلوبية وتساوي قوة العناصر

استخدم مسرح الكابوكي في اليابان أسلوبية مبالغاً فيها، حيث كان يغير شكل الأحداث والوقائع حتى تحتفظ لنفسها بأساس مادي فقط، أي لا يدعم الحقيقة ولا الواقع، ولا يعطي للأحداث والحقائق تفسيراً تعسفياً، أو نظرة خاصة كما كان يظن آرنهايم (منظر سينمائي سبق نظرية أيزنشتاين)، بل كل حركة في مسرح الكابوكي الياباني مؤسلبة، وتعمل في نظام أكبر يشتمل على شفرات أسلوبية للأصوات والملابس والديكور، بطريقة تجعل المرء لا يمكنه أن يقول أن هذه الشفرات موجودة لمؤازرة الحركات. ولا يمكن فهم المسرحية بسرد الحبكة أو الحركات، إنما تفهم من خلال الشكل الذي تتخذه مجموعة العناصر جميعها معاً، وراق هذا أيزنشتاين، حيث رأى أن قوة تجريدية هذا الشكل تضاهي قوة الشكل الموسيقي أو التصويري، إذ لن يستحوذ الواقع على المشاهدين، والحركة تصبح مساوية للون أو درجة الصوت. وكان يأمل أيزنشتاين أن يحرر الفيلم من الواقعية الفجة بالسرد القصصي الذي تصاحبه العناصر المؤازرة، من خلال خلق نظاماً تتساوى فيه وتتضافر كل العناصر: الإضاءة والتكوين وترجمة الحوار وغيرها، وأن يعمل كل عنصر كلعبة من ألعاب السيرك تختلف عن الألعاب الأخرى، لكن تساويها في قدرتها على إحداث تأثير دقيق.


اختلاف نظرية أيزنشتاين في السينما عن علم الجمال

رأى أيزنشتاين أن مشاهدة الفيلم السينمائي هي مشاهدة سلسلة مستمرة من الصدمات، التي تأتي من كل عناصر الفيلم المختلفة وليس من القصة فقط، أو العنصر الأساسي كما في علم الجمال التقليدي، حيث يكون عنصر الحركة السائدة هو ما يحدث التأثير الأساسي، وتؤازره الإضاءة والتكوين والتصوير، وهذا يختلف مع نظرية أيزنشتاين آنذاك، إذ أنه يرى كل العناصر متساوية في تأثيرها وقوتها، وليس هناك عنصراً أساسياً وبقية العناصر تؤازره، ولكن فيما بعد سوف يمتثل أيزنشتاين لنظرية العنصر السائد.


 تحول أيزنشتاين من اللقطة كمادة خام إلى الجاذبيات

غير أيزنشتاين نظريته عن اللقطة كمادة خام، لمّا أهتم بقدرات العناصر داخل اللقطة، وأحس أن الفيلم السينمائي لا يوجد كفن إلا إذا صار حزماً من الجاذبيات كالنغمات الموسيقية، حيث أراد المنظر أيزنشتاين أن يخلق سلماً موسيقياً للفيلم السينمائي، حتى يمكن للمخرج استخدام عناصره إما على حدة أو في اتحاد، ويكون متأكداً من النتيجة، واعتقد أيزنشتاين -متأثراً ببافلوف- أنه يمكن أن نسيطر على لقطات الفيلم أو الجاذبيات بمؤثرات خاصة على المشاهدين.

ولم ير أيزنشتاين أن تسجيل الحياة يعد سينمائياً، كما عاب على استمرار اللقطات الواسعة على الشاشة بعد أن تؤتي مغزاها، فرأى أيزنشتاين أن المادة الخام هي العناصر داخل اللقطة المتفردة القادرة على بعث استجابة متفردة يمكن قياس إمكاناتها لدى المشاهد، وسمى أيزنشتاين هذه العناصر الجاذبيات.


أيزنشتاين والفيلسوف اليوناني أرسطو

في كتاب أرسطو فن الشعر ذكر مفهوم التطهر، فقال أرسطو إن البطل التراجيدي هو بطل خير، لكنه يرتكب خطأ يجعل نهايته مأساوية، ويسيطر على المتلقي شعورين: الشفقة والخوف، الأول على البطل، والثاني على المشاهد نفسه خشية الوقوع في نفس خطأ البطل، وهذا التنفيس الوجداني هو ما أعطاه أرسطو مصطلح التطهر، وفي تلك العملية تشابه مع نظرية أيزنشتاين في السينما، التي تعتمد على التفاعل بين المتلقي وما يراه على شاشة العرض السينمائي.

(أقرأ: ملخص كتاب فن الشعر لـ أرسطو)


اختلاف نظرية أيزنشتاين عن نظرية بودوفكين

رأى بودوفكين أن الفيلم الخلاق يأتي من سلامة اختيار وتنظيم أجزاء الواقع التي لها دلالة محددة، وأن صانع الفيلم لديه الوسيلة لينقل ما رآه في شكل تتابعاً سلساً، حيث يسيطر على انتباه وعواطف المشاهد، ويقوده ليس خلال الواقع المتداخل المشوش، إنما خلال تجربة واقعية واضحة أعاد ترتيبها في فيلمه. أراد بودوفكين أن ترتبط اللقطات لتؤدي بالمُشاهد خِفيةً أن يتقبل حدثاً أو قصة أو تيمة، فيما عارضه أيزنشتاين مطالباً ليس بالربط، ولكن بالاصطدام مع مشاهدين يشاركونه العملية الإبداعية، عن طريق عملياتهم العقلية أثناء المشاهدة. لذلك كانت نظرية الفيلم عند أيزنشتاين أكثر تعقيداً من نظرية بودوفكين؛ لأنها تشمل في طياتها جانباً مادياً وهو مظاهر اللقطة ومكوناتها، التي يسميها أيزنشتاين الجاذبيات، وتشمل كذلك جانباً روحياً وهو العقل الذي ينجذب ويتفاعل مع هذه الجاذبيات، في حين بسط بودوفكين المسألة بقوله إن اللقطة مجرد خطوة فنية في إنتاج الفيلم، ولكن من ناحية أخرى تكون الصدمة أو الجاذبية علاقة بين العقل والمادة، أي مسألة تجربة لها مفهوم أكثر عمقاً وثراءً للمشاهدين. وأصر أيزنشتاين على أن اللقطة ليست قطعة من الواقع كما يرى بودوفكين، إنما هي مكان لعناصر شكلية مثل الضوء والخط والحركة والسعة، وإذا كان صانع الفيلم مبدعاً حقاً -قال أيزنشتاين- فإنه يخلق المعنى ولا يوجهه، يبني علاقات ليست كامنة في معنى اللقطة، بل يستخدم اللقطة ليبني إحساسه الخاص.


خُلاصة المادة الخام عند أيزنشتاين

تحول أيزنشتاين من رؤيته للقطة بمفردها كمادة خام -كما في نظرية بودوفكين- إلى أنها الجاذبيات، أي العناصر البصرية داخل اللقطة، والتي تثير التداعيات في عقل المشاهد، أي تعتمد على النشاط الذهني للمشاهد، لذلك نظرية الجاذبيات كمادة خام للسينما أكثر ميكانيكية من نظرية اللقطة المفردة؛ لأنها لا تعتمد على ما ينقله صانع الفيلم السينمائي خلال اللقطات المصورة وحسب، إنما تعتمد على العمليات العقلية في عقل المشاهد. ورأى أيزنشتاين أن اللقطة لا يجب أن تكون مماثلة للواقع، بل يشكلها صانع الفيلم السينمائي ليخلق عناصراً تحدث تصادماً مع عقل المشاهد، وهي نظرية ازدواجية بين العملية الميكانيكية البسيطة التي يمكن فيها التنبؤ بصناعة الأفلام، والخبرة المعقدة التطورية للمشاهد، النظرية الأولى لشكل الفيلم والنظرية الثانية لتأثير الفيلم السينمائي على المشاهد. إن المخرج سيرجي أيزنشتاين ينظر للفيلم السينمائي أحياناً كآلة وأحياناً ككائن حي، أحياناً كأنه مطية الإقناع البلاغي، وأحياناً كأنه وسيلة أسمى قريبة من التصوف لمعرفة الكون.

(أقرأ الجزء الثاني من نظرية أيزنشتاين)

أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال