سينما العقل.. شرح نظرية مونستربرج في السينما

في هذا المقال نستخلص نظرية هوجو مونستربرج في السينما، من كتاب نظريات الفيلم الكبرى، عن طريق عرض مبسط لرؤية مونستربرج للمادة الخام في السينما، والطريقة التي تعالج بها، والشكل الناتج عن تلك المعالجة، وأخيراً الغرض من السينما كفن.

هوجو مونستربرج

لمّا ظهرت السينما في أواخر القرن التاسع عشر ارتبطت بالمسرح، واستخدمت السينما الأداء المسرحي في بداياتها، لذلك اعتقد البعض أن السينما لن تتطلع إلى أكثر من ذلك، ورأى آخرون أن السينما ستكون مقتصرة على الأحداث التي تسجلها من الحياة فقط، ولن تكون موجودة في سياق آخر أو تتناول شيئاً آخر، في حين أصر المنظرون وأهمهم على أن السينما فن مستقل بذاته، وأنها صنوٌ لغيرها من الفنون، وإنها لفن سامٍ حيث تعيد ترتيب الفوضى في الحياة إلى بناء متماسك، وبدأ المنظرون في دراسة السينما وتحليلها من أجل استخلاص نظرياتها.

نظرية الفيلم هي مجموعة من المحددات التي يعمل صانع الفيلم في إطارها، تعبر النظرية عن كيفية فهم صاحب النظرية ورؤيته للوسيط السينمائي، والهدف من نظرية الفيلم هو استنباط معادلة تنظيمية لإمكانات الفيلم، حتى يتمكن هذا الوسيط من التطور.

في كتاب نظريات الفيلم الكبرى حدد الكاتب دادلي أندور أربعة رءوس رئيسية لاستخراج نظرية الفيلم، وهي العناصر التي تكون الفيلم السينمائي، وهي:

1- المادة الخام: وسيلة التعبير السينمائي.

2- الطريقة والتقنية: طرق معالجة المادة الخام.

3- الأشكال والمظاهر: الشكل الناتج عن المعالجة، والذي له تأثير معين، وكيف سيستقبله المشاهد.

4- الغرض والقيمة: ماذا يفيد معالجة المادة الخام بتقنية وإنتاج شكل معين؟


 نظرية هوجو مونستربرج في السينما

كان هوجو مونستربرج عالم نفس ألماني وفيلسوفاً، عاش بين 1863م و1916م. في كتابه الصور المتحركة، رأى مونستربرج أن التكنولوجيا هيأت الجسد لظاهرة السينما الجديدة، حيث إنه بدون تكنولوجيا لا يوجد صور متحركة، والمجتمع شكل الجسد من خلال دوافعه الاجتماعية والنفسية في التعلم والترويح، فدفع الجسد للعب أدوار حقيقية، وبالتالي أصبح للسينما وجوداً. رأى هوجو مونستربرج أن للفيلم ثلاثة مراحل أساسية:

1-  يتحرك الفيلم من خلال اللعب بالآلات البصرية، فتتكون الصور المتحركة.

2-  تنقل الصور المتحركة معلومات بصرية معينة.

3-  يقارن المشاهد المعلومات المستخلصة من الصور المتحركة بخبراته السابقة، فيكون عقله فكرة معينة.


هوجو مونستربرج والسينما الروائية والتسجيلية

قال هوجو مونستربرج إن استخدام الآلات لتحريك الصور إن لم يكن روائياً، فهو يعتمد على الإمكانات العقلية لدى المشاهد لربط وتكوين أحداث روائية تجعل للصور المتحركة قيمة، لذلك لم يذكر هوجو مونستربرج أي نوعٍ غير السينما الروائية، ولم يهتم بالأفلام التسجيلية حيث اعتقد -برغم تقديمها وظائف اجتماعية ثمينة- أنها لا تسمو إلى أن تعتبر سينما.


نظرية هوجو مونستربرج في السينما: المادة الخام

رأى هوجو مونستربرج أن المادة الخام هي العقل البشري، حيث يستقبل العقل صوراً متحركة تخلق إيهاماً معيناً، فتستعين الذاكرة بالخبرات، فتستدعي عواطف وانفعالات معينة، وبالتالي تتكون الأفكار. ونظراً لأن هوجو مونستربرج فيلسوفاً بالأساس في مدرسة "كانت"، قبل أن يكون منظراً، فقد أمتثل لرؤية فلسفية للسينما، ورأى أن كل تجربة هي علاقة بين كل وجزء، وهي نظرية عرفت باسم (الجيشتالت)، فرأى أن السينما علاقة بين حركة على الشاشة وخلفية المشاهد العقلية عما يراه، وبالتالي يحدد العقل العلاقة وينظم مجالها الحسي. وأضاف مونستربرج أن ترجمة الحركة تعتمد على اهتمام العقل البشري بشيء أو بآخر، فمشهد مرور السحاب أمام القمر مثلاً، يمكن أن يُرى على أن السحاب يمر بسرعة أمام القمر المتجبر في علاه، أو يُرى بطريقة مناقضة تماماً على أن القمر هو ما ينزلق خلال السحب، ومن خلال هذا المثال نستنبط أن اختلاف وجهتي النظر حول نفس المشهد يحددهما اهتمام العقل.


نظرية هوجو مونستربرج وتقنية "انتباه"

واستطرد مونستربرج في حديثه عن العقل، فذكر أن للعقل البشري مستويات عديدة، أولها وأبسطها يعطي إحياءً للعالم الحسي بالحركة، مخالفاً في ذلك نظريات جاءت بعده بسنين، قالت إن تأثير الصور المتحركة يرجع إلى الاحتفاظ بالدافع البصري؛ أي احتفاظ العين بما رأته لمدة ثانية بعد أن تختفي، (نظرية بقاء الصورة)، فقد قال مونستربرج إن الفيلم ينتج صوراً صمّاء متلاحقة تعمل مباشرة على مادة العقل الخام، الذي يبني العالم من خلال ممارساته وخبراته السابقة، والزوايا المختلفة والصور القريبة ما هي إلا طريقة خاصة يعمل بها العقل، أطلق مونستربرج على هذه العملية مصطلح (انتباه)، فالصور المتحركة ليست تسجيلاً للحركة وحسب، إنما تسجيل منظم للقطات معينة يخلق بها عقل المشاهد حقيقة لها معنى، وكذا الأنواع المختلفة من التوليف البصري: اللون والتكوين وغيرهما من العناصر التي تؤثر وجدانياً في المشاهد، يستقبلها -حسب رأي مونستربرج- المستويات العليا من العقل، وأضاف مونستربرج أن العاطفة تكون في أعلى مستويات العقل، وتتفاعل العاطفة مع القصة التي كونّها المشاهد من خلال تلاحق الصور والمشاهد، لذلك يقول مونستربرج إن تصوير العواطف لابد وأن يكون الهدف الرئيسي لتصوير الصور المتحركة، فيطبع التأثير الأولي للصور إيهاماً معيناً يستقبله المستوى الأول من العقل، ثم توجه العاطفة في مستواها الأعلى كل عمليات الفيلم على المستويات التي تليها، اعتماداً على خاصية الانتباه من خلال الزوايا وحجم الصورة وغيرهما من التوليفات البصرية، فمثلاً من خلال تتابع المشاهد وبالتالي تتابع تكوين أفكار معينة لدى المشاهد من كل لقطة وكل مشهد، تكون المحصلة عاطفة تماهي مع البطل ورغبة في انتصاره، فتتمركز هذه العاطفة في أعلى مستويات العقل، وتضخ الانفعالات للمستويات الأدنى، فيشعر المشاهد بالتوتر إذا اقترب البطل من خطر ما، وتداعب التكوينات الأخرى مثل احجام اللقطات والموسيقى المستويات الأدنى تحت تأثير العاطفة في أعلى مستويات العقل.


 هوجو مونستربرج وكانت

عارض مونستربرج وكانت الماديون في رؤيتهم لأن العقل البشري (المتوتر) ينسج عالم المنطق الأخلاقي لأنه لا يستطيع التعامل مع عالم المادة المتعسف، وأن ذلك ما هو إلا حيلة سيكولوجية حتى يشعر الإنسان أن الدنيا غير المنطقية متماسكة، فقال مونستربرج إن الفن هو وسيلة يجد من خلالها العقل اثباتاً على وجود الشيء والمنطق الذي يدركه، ويهرب المتلقي من خلال السينما للحظة من توتر وجنون العالم، حيث يغزو عقلنا الفيلم على الشاشة وننقطع عن كل الاهتمامات الأخرى، ونشعر به لأجل ذاته لا لأننا نحاول أن نفهمه أو نستخدمه، وهذا هو الهدف النهائي للسينما في رأي مونستربرج، حيث إن مع نهاية الفيلم تتحرر الطاقة التي بعثتها القصة، حتى ولو كانت عنيفة وشهوانية.

واقتربت نظرية هوجو مونستربرج للفيلم من الأحلام، خاصة وأنه رأى أن صانع الفيلم بإمكانه استبدال القوانين الطبيعية، الزمان والمكان والسببية، وإعطائها مظهراً خاص، ولكن الفيلم ليس كالحلم، لأن الحلم يستثير خيالات وانفعالات ويتركنا في حالة حيرة وأحياناً فزع، إنما الفيلم يعيد تنظيم الظواهر الطبيعية في ضوء العقل، والتي حركت فينا الانفعالات، ويلم الفيلم أطرافها فيعطينا نظاماً نهائياً يؤكد أولوية القوانين العقلية على فوضى الظاهرات، وبتحرر الطاقات مع نهاية الفيلم تنتهي المشاعر والانفعالات، فيخرج المشاهد من الفيلم دون أن ينقصه شيءٌ، بعكس الحلم.


هوجو مونستربرج والمونتاج

رأى هوجو مونستربرج المونتاج على أنه بنائياً، أي يعمل بنظرية 1+1=3، لقطة بجوار أخرى تؤدي إلى معنى، والتي تم التعبير عنها فيما بعد من خلال تجربة كوليشوف، حيث لقطة لرجل يبتسم ثم لقطة لطفل يلعب تعني رجل حنون، ونفس اللقطة لابتسامة الرجل ولكن بجوارها لقطة لفتاة عارية حولت ابتسامته إلى ابتسامة شهوة جنسية، أي أ، تجاور اللقطات هو ما يؤدي بالمشاهد للوصول للمعنى المراد.


خلاصة نظرية هوجو مونستربرج في السينما

يرى مونستربرج أن المادة الخام هي العقل البشري بمستوياته كلها، حيث تعتمد السينما على التفاعل بين عقل المشاهد والصور المتحركة التي يراها على الشاشة، ويعتبر مونستربرج أن المادة الخام تعالج بتقنية انتباه، بكل العناصر التكونية داخل اللقطة، ثم اللقطات المشاهد، ثم المشاهد، ومن ثم الفيلم كله. ويرى مونستربرج الشكل الفيلمي على أنه هو تسجيل منظم للقطات بعينها تنقل أفكاراً، أو إعادة تنظيم الواقع في ضوء العقل، ويعتقد مونستربرج أن الغرض من السينما هو الهرب من توتر وجنون العالم، والانشغال بقطعة منظمة مُستقاه من الواقع، لأجل ذاتها لا لأننا نريد أن نفهمها أو نستخدمها، إعادة صياغة الواقع فقط للهروب من جنون العالم، وليس لأجل فهمه.

اقرأ نظرية أيزنشتاين الشكلية

تم.

أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال