تحليل لوحة إصرار الذاكرة لـ سلفادور دالي.. معنى كل لون وكل رمز

 لوحة إصرار الذاكرة لـ سلفادور دالي

هي لوحة سريالية رسمها الفنان الإسباني سلفادور دالي لأول مرة في عام 1931م، ثم أعاد رسمها مرة أخرى في عام 1954م. تضم لوحة إصرار الذاكرة عدداً من الساعات الذائبة، معلقة إحداها على غصن شجرة يابس، وغيرها تغزوها الحشرات، وجزء من وجه إنسان يبدو في حالة حلم، وأيضاً جبال في الخلفية. يعد الفنان السريالي سلفادور دالي من رواد المدرسة السريالية، والتي تعنى بالتعبير عما تضمره النفس البشرية في أعماق اللاشعور.

لوحة اصرار الذاكرة


حالة لوحة إصرار الذاكرة

تقحمك لوحة إصرار الذاكرة منذ النظرة الأولى في قلب مشهد غرائبي، لا تستغرق كثيراً لتشك في أنه حلم، وما إن تبدأ إمعان النظر في عناصره حتى تتأكد، فمن خصائص الأحلام أنها تضعك في قلب الحدث دون مقدمة، وبرغم عدم معقولية الحدث، إلا أن الحالم لا يلاحظ ذلك أبداً، بل يندمج فيه ويتفاعل معه، وفقط حين يستيقظ يلتفتُ إلى عدم منطقية مكوناته. ومن هنا بزغت أولى عناصر الإبداع في إصرار الذاكرة، حيث تجعل رائي اللوحة (اليقظ) يلتفت إلى غرائبيتها، وفي نفس الوقت يألفها، يرصد غموضها، ويجد الغموض غير معبراً بما يكفي، يتسلل إحباط لقلبه، وما يكاد يدركه حتى يشوبه قليل من البهجة! ويتفاعل الرائي مع كل المشاعر تلك التي تضاربها هو سر تآلفها، وكأنه نصف نائماً، وبذلك تمكن سلفادور دالي بعبقرية من إدخال الرائي في حالة الحلم التي أراد التعبير عنها في لوحة إصرار الذاكرة.

لوحة اصرار الذاكرة

التضارب المتآلف في لوحة إصرار الذاكرة

يجمع الفنان السريالي سلفادور دالي بين متضاربات متآلفة في عناصر إصرار الذاكرة، فبينما تعطي الساعات الذائبة وخاصة تلك التي يغزوها النمل انطباعاً بالعجز والفناء، وكذلك تيبس غصن الشجرة وقحالة الأرض، والوحشة الآتية من المسحة الصفراء الكبريتية. تجد من جهة أخرى حنيناً للماضي، يتمثل في لون الأرض البني، إضافة إلى جبال قيل إنها مستوحاه من شمال شرق كتالونيا، حيث قضي سلفادور دالي طفولته، وكذلك نجد وجه الإنسان النائم يبدو في حالة من الهدوء وعدم الانزعاج. وفي الوقت الذي توحي فيه الساعات الذائبة غير المتماثلة مؤشراتها بانعدام قيمة الوقت، يظهر أن الساعة صفراء الإطار ذابت بشكل نصفي وتقف عليها ذبابة، وعادة ما يوحي اللون الأصفر بالاقتراب، فالبطاقات الصفراء في كرة القدم مثلاً تعني الإنذار، فهل مع إيحاء اللون الأصفر بنفاذ الصبر تريد الذبابة أن تتدخل لتحريك العقارب في دلالة على طول الزمن حد السأم؟ أم أنها تتدخل لدحض قيمة الجزء المستعصي على الذوبان؟ وكذلك الساعة الحمراء لم تذب نهائياً، والأحمر غالباً ما يرمز للثورة، ومن ناحية أخرى فهي مقلوبة ويغزوها النمل! 

بصفة عامة فإنه لا شك إن لوحة إصرار الذاكرة أو الحلم يدور حول الوقت كفكرة رئيسية، خاصة في وجود شيء صلب على يسار اللوحة من الأعلى، والذي قد يكون دليلاً على بقاء قوة وتأثير بعض الأشياء، وبالتالي شحذ تأثير الذوبان والاضمحلال على الساعات. ولكن لا بد أن نتساءل هل تريد اللوحة الإشارة إلى انعدام قيمة الوقت أم الساعات؟ أي هل الزمن لم يعد له قيمة -خاصة وأن في حالة الحلم يمر الزمن بشكل مغاير لطبيعته في حالة اليقظة؟ أم أن قيمته أضحت أكبر بكثير من أن تمثلها الساعات أو تتحكم بها، ولذلك عُلّقت أكثر الساعات ذوباناً على فرع الشجرة؟ 



علاقة إصرار الذاكرة بـ فرويد وتفسير الأحلام

قد ذكر العالم النفسي سيغموند فرويد في كتابه تفسير الأحلام أن الذاكرة هي مصدر الأحلام، ولعله سبب تسمية لوحة إصرار الذاكرة بهذا الاسم، فيقال إن سلفادور دالي قد رأى مشهداً لقطعة جبن ذائبة، قبل أن ينام ويحلم بمشهد الساعات الذائبة هذه. ولم يكن إحلال الساعات محل الجبن وظهورها بهذا الشكل محض عبثٍ، إنما دليل على انشغال دالي بالزمن آنذاك، خاصة بعد ظهور نظريات أينشتاين، فيقول فرويد إن مادة الحلم هي الذكريات المسببة للتهييج النفسي في أثناء اليقظة، فيما يعني انشغال سلفادور دالي بالساعات أو بالزمن في حالة اليقظة. 

وأضاف فرويد في كتابه أن العناصر المستدعاه من ذاكرة الحالم، تخضع لعملية تحييد مرتبطة بهواجس الشخص ومخاوفه، حتى أن الأفكار قد تظهر بصورة معاكسة لحقيقتها، وحسبما عُرف عن سلفادور دالي وعن السريالية بصفة عامة أنها تهدف للتعبير عن النفس بعيداً عن الرقابة التي يفرضها العقل وما سواه، وبذلك نخلص إلى أن فكرة سلفادور دالي من لوحة إصرار الذاكرة على غرائبية عناصرها كانت شديدة الوضوح، ويمكن التعبير عنها من خلال مقولة أينشتاين: "المسافة بين الماضي والحاضر والمستقبل ما هي إلا وهم". ولذلك نجد في اللوحة الجبال المستدعاه من طفولته، فيخرج الفنان سلفادور دالي من مجرد تجسيد حالة الحلم، إلى هدف أكبر وأكثر عمومية وهو تجسيد طبيعة الزمن عموماً، من خلال الإيمان بالنظريات العلمية حول الكون وأهمها نظريات أينشتاين. 


علاقة إصرار الذاكرة بأينشتاين والنسبية

ولعل إيمان الرسام سلفادور دالي بأن الكون أو الزمكان عبارة عن نسيج -حسبما رأى أينشتاين وأثبتت الدراسات فيما بعد- هو سبب إعادة رسمه لوحة إصرار الذاكرة أو ثبات الذاكرة مرة أخرى في عام 1954م. خاصة وأنه قد فكك عناصر اللوحة الأولى إلى جزيئات، لكنه استثنى الساعات، فكك العقارب لكن الأجساد الذائبة مازالت متلاحمة، ربما للتأكيد على أن لوحة إصرار الذاكرة الثانية لها نفس فكرة وهدف  الأولى. 

اصرار الذاكرة لسلفادور دالي

وقد أتُّهم سلفادور دالي بإفساده سريالية إصرار الذاكرة الأولى لمّا فكك محتوياتها، وتخليه عن ركيزة السرياليين الأساسية، ألا وهي التعبير عما هو غامض ولا شعوري، خاصة وأنه أضاف إلى إصرار الذاكرة الثانية عناصراً جديدة مثل السمكة في الماء أسفل الجبال. ولكننا نرى أنه زادها إبداعاً، وطعمها بحقائق علمية ليست مناقضة للاشعورية إنما مكملة لها، فعدم مرئية السمك أسفل الماء لا يعني عدم وجوده في الصورة، ووحدة كتل العناصر الظاهرية، ما هي إلا لتلاحم لجزيئاتها، فالمرئي وغير المرئي، اليقظة والحلم، المنطق واللامنطق، ما هي إلا وحدة واحدة متصلة ومترابطة.

تم.
أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال