لتجربة أفضل:
الإسكندرية 20 مارس 2018م
"العالم الوسيم"، تعلقت هذه العبارة بذهني لما قرأتها في رواية موسم صيد الغزلان قبل قليل، لا أدري متى سأنتهي من قراءتها، الأمر وكأنني أقرأ سطرين كل سنة، قرأت اليوم القليل منها على ضوء كشاف هاتفي، نظراً لتلف مصباح غرفتي. الغرفة مشتركة بيني وبين سيف أخي الأكبر، لكم تمنيتُ أن أكون وحيداً بدون إخوة، فأحظى بكل الرعاية والاهتمام، ولكن لي ثلاثة إخوة ذكور من نفس الأم، وأخ رابع من أم ثانية، أنا ثاني إخوتي، وأكثرهم تدليلاً لدى أبي، خاصة وأني -على حد تصوره- متفوق في الدراسة، ويأمل أن أحقق أمله بأن أصبح طبيباً، وهذا ما جعل عبارة "العالم الوسيم" تجذب اهتمامي
- طيب يا عالم يا وسيم ما بتحضرش معانا ليه؟
هكذا تخيلت تعليق علي صديقي، بصوته الرفيع ونبرته المستهزئة بغير حدة. ففي المركز التعليمي الذي أحضر فيه، هناك موعدين لكل درس، موعد مبكر في الثانية ظهراً، والثاني في الرابعة مساءً، وقد اخترت منذ بداية هذا العام أن أحضر في الموعد المبكر، تاركاً الموعد المتأخر الذي يحضر فيه علي ومصطفى صديقيّ، وقد نشأت صداقة بين وبين يوساب في الموعد المبكر، ووجد بيننا اهتمام مشترك بالكاتب أحمد مراد، أنا ويوساب ننتظر عرض فيلم تراب الماس أكثر مما ننتظر كأس العالم، بعكس أغلب الذكور. ولكم يحزنني تعرضه إلى شيء من العنصرية من قبل الزملاء في الدرس، الذين يتكلمون بين الحين والأخرى عن رائحة كريهة موجودة في القاعة بسبب هؤلاء المسيحيين الذين يحضرون معنا.
وبحضوري مبكراً تخليتُ كذلك عن الحضور في المدرسة، فمن يحضرون في المدرسة يصعب عليهم المجيء في موعد الثانية ظهراً، ولم أخسر بذلك شيئاً، هذا لأن في مدرسة عباس حلمي الثانوية لا يوجد مدرس يشرح، وبالتالي لا يوجد طالب يستفيد، أما مدرسة حسان بن ثابت، وهي مدرسة علي ومصطفى، فهي مدرسة المتفوقين، وكانت تتطلب مجموعاً مرتفعاً في الإعدادية من أجل الالتحاق بها، ومجموعي كان متوسطاً.
وأما عن تفضيلي الموعد المتأخر فذلك يرجع إلى سببين
- يا عم دي حبيبة اللي بتسأل عليك، بتقول اتكبر علينا
كان ذلك هو السبب الأول، حبيبة، التي خفق قلبي لذكر اسمها، أما السبب الثاني فلأن الموعد المتأخر موعد المتفوقين، لذا فالمدرسون يتوقفون عن الشرح بين الحين والأخرى ويسألون الطلاب فيما شرحوا، لست أخشى عدم معرفتي الإجابة، بل عدم قدرتي على نطقها، فأنا متلعثم، ورغم تجنبي الحضور مع المتفوقين لا أسلم، فيتعين عليّ نطق اسمي مرة كل شهر من أجل تسجيل دفع المصروفات. موعد الدفع غداً، هذه المواجهة التي أقضي الشهر بأكمله قلقاً منها، وما إن تنتهي حتى أشعر تجاهها باستهانة، رغم تعثري الشديد فيها، إلا أنني أقول لنفسي إن الأمر بسيط جداً، ولكني ما أشعر أنه بسيط إلا لأنه مضى وانتهى، ولو طلب مني نطق اسمي مجدداً لتعثرت ربما أكثر من المرة الأولى. هذه هي حياتي منذ جاءتني فكرة التلعثم أول ما جاءت، فالتلعثم ما هو إلا صوت داخلي يقول إنني لن أستطيع أن اتكلم، صوت قوي لدرجة تعجزني حقاً عن التكلم، فترتعش شفتاي وتضطرب أنفاسي وتهرب عيني من مواجهة عيني محدثي
- علاء محمد السيد موسى أحمد السيد علي عبد العال
نطقت اسمي بالكامل بصوت خفيض، ممتنعاً عن ذكر اسم العائلة الذي لا نحبذ ذكره، وبمناسبة العائلة تذكرت الصعيد الذي ولدت ونشأت فيه، وقد تركناه قبل عامين بسبب نظام العائلات الذي يسوده، كلما كان عدد أفراد عائلتك أكبر، كلما كنت مقدراً بين الناس، وعلى النقيض تصبح بلا قيمة إذا لم يكن لديك أقرباء كثر، وكان ذلك حالنا. وقد جئت من الصعيد محملاً ببوادر التلعثم، وإدمان الاستمناء، الذي أخذ يلح عليّ كعادته حين احتاج إلى توفيق الله في مواجهة كلامية ما، فإذا كنت أريد توفيقه عليّ ألا أغضبه، ولكن ألا يفترض أن أكون على حقيقتي معه؟ إذا كان يريد توفيقي فليوفقني وأنا على معصية. تذكرت أن ميس هناء الموظفة المسؤولة عن التسجيل قد ساعدتني مرة وجعلتني أكتب اسمي بنفسي، أليس ذلك كفيلاً بإزالة الضغط عني قليلاً؟ أليس ذلك دافعاً لعدم الاستمناء؟ ولكن العجيب أن ذلك كان دافعاً لممارسته! فتحت النتيجة في هاتفي، فقد أعتدت أن أرصد عدد مرات استمنائي بأن أضع علامة :) عن كل مرة أستمني فيها في تاريخ اليوم، وكان عدد المرات مرعباً، ومن عجب أن ذلك يزيد من رغبتي.
- عايزين ايه فلوس لبكره؟
كان ذلك صوت بابا آتياً من الصالة، وكأن الله قدر مجيئه في هذه اللحظة حتى يحول دون ما كنت مقدماً على فعله.
* * *
خيوط العنكبوت تسكن معظم أركان سقف الصالة، ومن المؤكد تسكن معظم أركان سقف غرفتي ولكني لا أراها، نور الصالة أسوأ من ظلام الغرفة إذ يكشف حقيقة بيتنا التي نخجل بسببها من استقبال أي ضيوف، وذلك بسبب عدم مهارة ماما في العناية بالبيت، منذ أن انتقلنا إلى الإسكندرية لا أذكر أني رأيتها مرة واحدة تنظف البيت. لما خرجت كان بابا يستعد للرحيل إلى بيته الثاني، بابا أسمر الوجه واليدين، ولكن لونه الأصلي أكثر بياضاً، مثل لوني تقريباً. كان الجميع موجوداً في البيت باستثناء إسلام الأخ الأصغر، كان في الشارع. سيف كان جالساً ينتظر الطعام، محمود يصفف شعره استعداداً للخروج، وأمي كانت بالمطبخ. حاولت أن أتكلم لكن عجزت، فتظاهرت وكأنني خارج لتناول الطعام، تحركت تجاه السفرة وعبثت بالأطباق الموضوعة فوقها
- عايز فلوس عشان نازل
كان ذلك محمود، الذي كان يرتدي ملابس ممشوقة على نحافته، قالها بلهجة صعيدية، فجميعنا داخل المنزل نتكلم بلهجتنا الأصلية، ولكن خارج البيت نتخلى عنها، هل يصح وصفنا بالتخلي عن هويتنا؟ لقد درسنا في منهج اللغة العربية هذا العام أن الشعوب التي تتخلى عن لغتها تكون خادمة لا مخدومة وتابعة لا متبوعة، ولكننا لو تكلمنا بلهجتنا الأصلية لسخر منا السكندريون، لا أدري، ولكننا لا نقوى على تحمل السخرية أو الشعور بالاختلاف.
- ما سايبلك خمسة جنيه يبن الكلب
رد عليه بابا بنبرة ساخرة، فصرخ محمود بعصبية:
- خمسة ايه اللي أنزل بيها دي
ولم يستطع سيف ألا يتدخل فقال:
- لا أقل حاجة خمسين
ازداد محمود غضباً، وتعالى صراخهم، فيما كنت مستمراً في العبث بالأطباق محاولاً التكلم دون جدوى، قررت أن أقول شيئاً غير الذي أريد، ومن عجب أنني أستطيع أن أتكلم حين أقول ما لا أريد قوله:
- ماما ايه الغدا؟
- دقيقة أديناا عنعملووا
صرختْ من المطبخ بغير داعٍ، فرد عليها بابا بنبرة تهكم:
- متزعقيلهمش.. أنا مخلف رجالة عشان أنتي تزعقيلهم؟
- داهية تحشر أمواتكم
- متدعيش ع العيال يا زفتة أنتي ميت مرة قولتلك
في طفولتي كنت أدعوا الله سراً أن يميت ماما ويبقي بابا حياً، خاصة حينما كنت أطلب منها شيئاً فتدعو عليّ قائلة: "داهية يبتليك بشعراية دم.. داهية يبتليك بعقربة تكون مريشة"، لم أعرف حتى الآن معنى دقيق لكلامها. وكان بابا دوماً هو الحنون الودود وهي الغاضبة بغير سبب، وقد دفعني دفاعه عني إلى القدرة على التكلم إلى حد ما، فقلت وقد حاول بابا الاهتمام بما أقول رغم تلعثمي:
- ع..عايز.. بكره......... فلوس
- لوليتا أنت تؤمر.. عايز كام؟
- ......... مية وخمسين
- أنا معييش غير عشرين هروح بيها بس اتصرفلك بكره.. أنت عايزهم امتى؟
- بكره السـ.. اتنين
- ده أنا هاجي يمكن تلاتة.. طب ما تغيب بكره؟
كم سأكون محظوظاً بتأجيل المواجهة ولو ليوم واحد، وافقتُ، وجلستُ على إحدى الآرائك بالقرب من بابا
- مش لسة جايالك فلوس
سأل سيف بابا فرد الأخير:
- ما عمك عصام خد منهم
- تاني؟
- واخد عشرتلاف وكل فلوس تيجي عليها دمغة
- إهت!! *(لفظ تعجب صعيدي)
- أخويا الكبير مقدرش أقوله حاجة.. أهدى أنا هتصرف.. معاكي يا هدى؟
أجابته ماما من المطبخ بصوت عالٍ:
- معايا منين يعني مش معاك الفيزا وواخد المرتب!!
- مممم يا نصابة؟ يعني مش مدكنة حاجة كدة ولا كده ناوية تبعتيها لاخواتك؟
- يارب ايدي تتشل لو شايلة حاجة عن ولادي
خرجت ماما من المطبخ لتقول بحماس:
- طب ماير.. طب بص اسمعني..
قال بابا ضاحكاً:
- سامعينك قولي
- يروح ويقولهم الحصة الداية
- لا ولدي ما يكسفش نفسه مع حد
- آنا معارفاش ايه الكبر اللي فيكم دِه!
ماما أكبر من بابا في السن، وتبدو كذلك أكبر من سنها، تربط وشاحاً صارماً على شعرها، وملامحها عابسة دائماً، توحي بقسوة لا تتناغم وما ترتديه من بيجامة منزلية زرقاء فاقعة! لاحظت ذلك فغضضت بصري، وعلق بابا:
- مش قلتلك غيري الترنج ده.. متقعديش قدام الرجالة ببنطلون
قال سيف وقد لاحظ أنها تركت الطعام واهتمت بشيء آخر:
- خلصتي الرز؟
- ع النار
- طب يلا
- حاضر يا أبيه سيف
عادت للمطبخ، وتوقف محمود عن تصفيف شعره وحدث بابا:
- طب شوف حل انا معاينفعش انزل كده
- يابن الكلب انت لسة ف نفس الموضوع؟
- أيوة لسة ف نفس الموضوع.. مانت عند حاجة علاء تتصرفله
ضحك بابا:
- طبعاً اتصرفله، أحسن واحد فيكم.. راجل محترم.. واخد باله من دروسه.. لا شاغل باله ببنات ولا قلة أدب
آلمني أنه يراني بهذه الصورة المثالية
- والله ما عارف انت ازاي سايبهم يسيحوا ف الشوارع ليل ونهار كده؟!
كان ذلك سيف معلقاً على خروج محمود وإسلام المستمر
- لا ما خلاص مفيش دلع بعد كده
رد محمود منفعلاً:
- نسيحوا أحسن ما نستتوا
سخر سيف من عصبية محمود وقلد تعبيراته ونبرته بشكل مستفز، وقال بابا لمحمود:
- أنا ساكتلك م الصبح ومكبر دماغي هتسوق فيها.. كلم أخوك الكبير كويس.. عايز فلوس تعمل بيها ايه؟
- ايه اللي اعمل بيها ايه ما هينزلوا هما يتفرجوا ع ماتشات
أفضى لي بابا يوماً أنه حزين على أخوي محمود وإسلام، إذ يخرجان كثيراً وأخلاقهم متردية، بعكس ما كنت عليه أنا وأخي الأكبر سيف، فقلت له ببساطة إن الأمر يرجع إلى أنك في طفولتنا كنت تجلس معنا كثيراً، تعلمنا كيف نتصرف في كل كبيرة وصغيرة، أما الآن فأنت لم تعد تفعل بالمثل مع الصغار، بل إنك انشغلت بالزواج والإنجاب، وإننا حتى لم نعد نجلس على مائدة طعام مثل السابق، بل بات كل منا يأكل بمفرده وقتما يشاء. لذا قررت أن أدافع عن محمود، فتحت فمي لأتكلم، عجزت أول الأمر قبل أن أنطق الكلمات دفعة واحدة:
- لو ماتش مهم.. يبقـ...
انتهرني سيف بحدة فظيعة:
- خليك ف حالك انت.. لما حد يسألك أبقى اتكلم
احتقن وجهي بشدة ودمعت عيناي، نظرت إليه بتجهم شديد ثم إلى بابا وقلت بصوت باكٍ:
- طب ايه ده طيب؟
تجهم بابا لكنه تحدث إلى سيف برفق:
- بس أتلم
استمر سيف في نبرته بغير اهتمام:
- كل شوية ينط ف الكلام.. عامل زي فرقع لوز.. مش كل الكلام يتدخلوا فيــه
- طب خلاص
رمقت بابا بتعجب، هل هذا كل ما تقدر عليه؟! قبل أن يتكلم محمود:
- عايز أنزل طيب
صرخ بابا بأعلى صوته فانتفضتُ خوفاً:
- عايز ايه يابن الكلب؟!
- عايز ايه؟ احنا عنتكلموا ف ايه!!
- ده ابن الواطي ما يسكتش غير لما يخليني ازعق، الناس تقول علينا همج!
اشتعل البيت بصراخ بابا، لعن محمود وتربيته، ولام ماما لأن أخلاقنا ترجع إلى سلوكها السيء في التعامل معه كزوجة وكأم. شعرت وكأن سحابة دخان تغشي صدري وتكتم أنفاسي، تراجع محمود وقرر ألا يخرج، بينما بقيت أنا مكاني أقاوم البكاء.
* * *
في الرابعة من عمري كنت أشك ألا شيء حقيقي، أتصور أن جميع الناس متآمرون عليّ، يمثلون أمامي كل ما يحدث، وما إن أغادر البيت مثلاً حتى يظهروا الكاميرات والميكروفونات، ويتواصلون مع الأشخاص الذين سأقابلهم بالخارج لتلقينهم ما يفعلون معي. كنت أشك ألا وجود للجنة أو النار أو الحساب أو الإله، وكل ما أتلقاه من الناس مسرحية متفق عليها. لم أعرف حتى اليوم سبباً لمثل هذه الشكوك، ولكني أذكر أن في هذه العمر ظهر التلعثم أول ما ظهر، ولكنه سرعان ما ضعف واختفى، لأني لم أكن كبيراً بما يكفي حتى أقلق منه وأنشغل بالتفكير فيه، فذلك ما يجعله يقوى ويشتد. وربما اختفى لأن بابا أخذني معه حينها في أحد السفريات إلى الإسكندرية وقمنا بزيارة مسجد أبي العباس المرسي وصلينا هناك، واشتري لي قنينة حبة البركة. كانت تلك طريقته في معالجة الأمر، أما الآن فبات يتجاهل، مثلما يتجاهل تصرفات سيف تجاهي. في عرف المصريين الأخ الأكبر يتجاهلون أغلب تصرفاته، وخاصة المتعلقة بإخوته الأصغر، فقط لأنه الأكبر، ولو فعلت بالمثل مع محمود أو إسلام سيسمح بابا لي، ولو كان لدينا إخوة بنات كان سيتجاهل تصرفات الذكور تجاهها.
ذات مرة رفعت سكيناً على سيف، لمّا جعل يسخر مني إلى حد يكاد يدفع للجنون، كان يسخر من مظهري، من كلامي، من كتاباتي، أو محاولاتي الكتابة، ولما كنت أصرخ عليه كان يضحك ويقلد تعبيرات وجهي مستهزئاً، لم أستوعب أبداً كيف يضحك إنسان على إنسان يصرخ ويبكي. وكنت دائماً ما ألقى اللوم من بابا حين أصرخ عليه أو أحاول ضربه، فأتحول من مجني عليه إلى جاني لأنني لم أصبر على ما يفعل، ولمّا يئست تعلمت التجاهل، وفوجئت بأن بابا يثني على تجاهلي ويطالب محمود وإسلام بأن يتصرفا مثلي قائلاً: "خلي شخصيتكم محترمة زي علاء.. أخوك الكبير يقولك كلمة فوتها عادي.. أعمل نفسك مسامعش.. أومال لما تخش الجيش وتسمع أوامر من الظباط ولا شتيمة بالأب والأم؟ ولا لو دخلت وقعد معاك عيل بارد يغلس عليك هتصرخله؟ لا لازم تبقى بارد وتسيب اللي يتكلم يتكلم.. واتريق أنت على نفسك قبل ما حد يتريق عليك.. من وأنتوا صغيرين وأنا اتريق عليكم وأطلع على ده اسم وده اسم.. عشان يبقى عندكم شخصية وميهمكمش كلام حد".
جوايا اتنين وأنا التالت
والتالت دايماً ساكت
سلِّم بطل يتكلم
ولا بيحس ولا بيتألم
غادر سيف المنزل، فقرر بابا أن يترك لمحمود أموالاً ليخرج، قبل أن يمد رأسه داخل غرفتي المظلمة ويسأل:
- لوليتا عايز حاجة قبل ما أمشي؟
ولم ينتظر إجابتي فأردف:
- متشيلش هم بكره هجيبلك الفلوس.. سبحان الله واخد الأوضة المدفونة وواصلها نور.. عايزك تطول بالك مع أخوك
دلف من الباب واقترب مني مسترسلاً:
- أخوك الكبير هنعملوله ايه؟ يقولك كلمة طنش عادي.. خليك أنت الأحسن.. أصل أنت فاكر كل الناس محترمة زيك.. لكن محمود هياخد الفلوس يصيع بيها برة.. ماشي؟ مش عايزك تشيل هم بكره أنا هتصرفلك ف الفلوس بأي طريقة.. هما كام؟
- مية وخمسين
- ماشي ولا يهمك.. انت عارف انا واثق فيك ازاي
أشفقت عليه وغمرني الشعور بالذنب، غادر الغرفة، وما هي إلا ثوان حتى نهضتُ ولحقت به قبل أن يرحل، وكان واقف أمام الباب يتحدث إلى ماما وإسلام ومحمود الجالسين في الصالة:
- بصوا إن حد خبط..
بتر كلامه لما رآني وأعطاني كل اهتمامه، ما جعل الكلام ينحبس بين فكي للحظات:
- .... امتى.. هتيجي؟
- بكره هجيبلك الفلوس
- في.. معاد تاني.. ألحقه.. أروح في معاد تاني
- طيب ماشي إن شاء الله (ثم وجه كلامه للجميع) كنت هقولكم ايه؟ لو حد خبط محدش يفتح.. أي ييجي مننا يرن الجرس وبعدين يخبط.. غير كده متفتحوش لحد.. مناقصنش يقولك احنا هنمسحوا السلم هاتوا خمسة جنيه.. لا خلي امك تطلع معانا.. معايزنش نختلطوا بحد.. زي ما كنا ف حالنا ف البلد خلينا ف حالنا هنا
- ماشي مع السلامة
قالتها ماما بشيء من التهكم، حاولتُ تصحيح الموقف بأن أظهرت اهتماماً شديداً بما يقول، ورددت عليه:
- حاضر
- متشيلش هم حاجة انا بكره هاجي بدري على كد ما قدر عشان تلحق درسك.. انا عارفك ملتزم ومحترم
ابتسمتُ له بسعادة وامتنان، رغم ما داخلني من قلق وشعور بالذنب. أغلقت الباب خلفه ووقفت للحظات أتفكر فيما أقدمت على فعله، الآن سأسجل اسمي غداً، سأحضر في موعد المتفوقين، سأقابل علي وحبيبة.
* * *
ملتحفاً بغطائي جعلت أتململ في الفراش، القلق يأكلني، والتستوستيرون يسيل من شراييني على الوسادة، يدفعني لأن ألقي نظرة على الموقع الأزرق، سيبقى المفضل لدي مهما قيل إن هناك ما هو أفضل منه، أعشق الأربعينيات، خاصة صاحبة الوشم الدائري على محيط الفخذ، والفيديو الذي تضاجع فيه مراهقاً في عمري أو أكبر قليلاً، وهي في رداء أزرق قاتل. هل تشبه لحظات الجنس لحظات الاستمناء؟ أشعر تماماً مثلما وصف أحمد مراد: لا وعي ولا لاوعي، أنا وموقع الغزلان الأزرق، ولكن نشوة الاستمناء أقل بكثير من أن توصف بالبركان. ها قد أتت الرعشة والتنميل، انبثق السائل وضعف المنظور، مع الشعور وكأن خلايا المخ تعود إلى الخلف، مخدرة، مسترخية، استرخاء ما يكاد ينقلب ندماً على ما حدث، وخوفاً مما هو آتٍ، واشمئزاز مما كنت أشاهد!
قبل أن تتحول كل هذه المشاعر إلى طاقة هائلة، تدفعني لأن أقضي ما تبقى من اليوم وغداً في صلاة خمسين فرضاً، وتنظيف البيت بأكمله، والهيام في خيالات أتكلم فيها بطلاقة، أجيب على كل أسئلة المدرس، أتلقى التقدير منه، ومن أعين زملائي، والأهم من عيني حبيبة، التي ترمقني بإعجاب يلاحظه علي وينبهني إليه. عادت أمي من عملها فقطعت شرودي، وضعت ما معها من أكياس فوق السفرة، نزعت الخمار عن رأسها وجلست لتلتقط أنفاسها، أثنت على تنظيفي للبيت ثم جعلت تقول:
- والنبي قمت ف الفجر غصلت المواعين ولميت الغصيل وجبت كيس إريال بخمسة جنيه.. كل يوم كُوُّام غصيل كَد كده
لو كان سيف موجوداً لما تكلمتْ معي بهذه الطريقة، على الأرجح كان سيخرج من الغرفة بسرعة ويطلب منها أي شيء، وكأنما ليصرفها عن الحديث معي، ويجذب اهتمامها نحوه، ومن عجب أنها لو لاحظت وجوده لتظاهرت وكأنها لم تكن تتحدث إليّ!
أهتز هاتفي برسالة جديدة، وكانت رداً من علي بعدما أرسلت إليه أخبره بأنني سأحضر معهم اليوم، "يا مرحب.. وحشني يا واد"، حدثته مرة أخرى عن رواية موسم صيد الغزلان، وعرضت أن أحضرها له ليقرأها، حتى وإن كنت لم أنهها بعد. لكنه يرى أنها "رواية نجسة"، وسيف يرى أن الروايات خيال و(هبل)، وبابا يقول إن نظرية انتقال الأرواح من جسد لجسد شيء من الكفر! كما يقول إن الروايات والأفلام والمسلسلات والأغاني كلها موجهة لأغراض غير نبيلة. ورغم ذلك فبابا يقول إنه قارئ قديم عتيد، وكان دائماً ما يمدح حبي للقراءة والثقافة، ولكني في الحقيقة أبداً ما كنت أقرأ كتاباً أو رواية، متى أنهي قراءة موسم صيد الغزلان أحسب قارئاً. لكم أتمنى أن أجد من يشاركني اهتمامي بهذه الرواية، بخلاف يوساب، ألا يمكن أن تكون حبيبة؟! ألقيتُ نظرة على حسابها على الفيسبوك، وكان أحدث منشور شاركته يقول: "هلف أخويا ف هدية وأقدمه لماما ف عيد الأم، عشان دي أكتر حاجة هي بتحبها"، كمعظم منشوراتها، تشكو من حب الأسرة لأخيها أكثر من حبهم لها.
لأول مرة أتمنى أن يتأخر بابا في العمل أو لا يعود، في صغري كنت أتوق لعودته للمنزل، كنت أقف في النافذة وأجعل أقرأ ما حفظت من القرآن حتى يعجل الله من مجيئه، ولكن عودته اليوم مبكراً تحكم عليّ بأن أذهب للدرس، وأواجه كل مخاوفي، وحيداً دون عناية الله بعد أن عصيته، أنا والماضي وبركان من الخوف. وقد عاد، في الثالثة عصراً، أعطاني الأموال، ارتديتُ قميصي الكحلي المفضل، رغم برودة الجو في ظل النوة الأخيرة في شتاء هذا العام، فليس معي جاكيت، لأننا حين ذهبنا لشراء الملابس شعرت أنني أثقلت على بابا مادياً فلم أفصح عن احتياجي لجاكيت، على أن اعتمد على ارتداء عدة طبقات من الملابس الداخلية.
حين دخل بابا البيت كانت ملابسه مبتلة بفعل الأمطار، قال:
- النهاردة أتقل يوم في النوة
واستقبلت كلماته بمفهوم آخر، كل الأمل في مساعدة ميس هناء.