مع تناول قصص شخصيات متعددة غير متقاطعة مع بعضها البعض، يدور فيلم عمارة يعقوبيان حول زكي الدسوقي كبطل رئيسي، وفي هذا المقال نوضح كيف أن خط زكي يرتكز على خمس وقفات/مشاهد رئيسية تحكي القصة بسلاسة وتمكن، ونبين كيف يتخذ وحيد حامد من تيمة موحدة إطاراً لتناول القصص الفرعية.
فيلم عمارة يعقوبيان 2006م، عن رواية عمارة يعقوبيان لـ علاء الأسواني، سيناريو وحوار وحيد حامد، إخراج مروان حامد، بطولة عادل إمام ونور الشريف.
لتجربة أفضل
المشهد الافتتاحي في عمارة يعقوبيان
يبدأ فيلم عمارة يعقوبيان بمشهد يلتقط فيه زكي (عادل إمام) مومساً من بار متواضع، ويدعوها لزيارته في مكتبه في عمارة يعقوبيان. هنا كأن السيناريو يعرفنا بوضوح وبساطة طبيعة البطل ومشكلته الرئيسية في الفيلم، فهو رجل ستيني ثري مولع بالنساء، ويترتب على ما فعل أن تسرق الفتاة خاتم أخته، ما يقودنا إلى الوقفة التالية وهي نقطة الهجوم.
نقطة الهجوم في عمارة يعقوبيان
نقطة الهجوم هي الحدث الرئيسي الذي يعترض حياة البطل ويدخله في الصراع، وفيها يتشاجر زكي مع شقيقته (إسعاد يونس) دولت، وتستغل الأخيرة حادثة الخاتم لتستولي على بعض أملاكه، لأنها ترفض علاقاته النسائية في حين أنها مثله، بل واسوأ. وعلى التوازي نرى صراعات سكان عمارة يعقوبيان الآخرين، التي ترتبط فيما بينها بتيمة واحدة، رغم أن قصص الشخصيات غير متقاطعة في حدث رئيسي واحد، إلا أن جميع القصص -بجانب اتصالها بمكان واحد وهو عمارة يعقوبيان- فهي متصلة اتصال داخلي بتيمة الاستغلال، فقد استغلت دولت الموقف لتحقيق رغبتها، وكذلك استغل عزام (نور الشريف) ظروف سعاد الأرملة وتزوجها ليشبع رغباته، واستغل أمواله في الوصول لمجلس الشعب، واستغل صاحب العمل حاجة بثينة (هند صبري) للأموال وتحرش بها، وكذلك أستغل حازم رشيد (خالد الصاوي) سذاجة واحتياج عبده العسكري وأغواه لينام معه.
نقطة المنتصف/التحول في عمارة يعقوبيان
وتجيء نقطة المنتصف/التحول وهي حدث يتوسط القصة، يلفت إلى زاوية أعمق لرؤية الأحداث، وفي عمارة يعقوبيان بعد أن أوضح محامي زكي الموقف القانوني والحلول المتاحة في أزمته مع دولت، يتركه زكي وينصرف مغتماً وتلحق به كريستين (يسرا). من المتوقع هنا أن يشكو زكي حزنه من دولت ويتعجب من شرها، ولكنه يفاجئنا ويتحدث عن الزواج، الذي كان من الممكن أن يجعل حياته أفضل. وكأن سيناريو عمارة يعقوبيان يشير إلى مشكلة البطل الحقيقية، التي جاء ليحدثنا عنها، وأن أزمته ضد شقيقته لم تكن سوى مجرد مثير لأمر الزواج. ونلاحظ أن بثينة قد دخلت حياة زكي عقب هذا المشهد وليس قبله، ربما للإشارة إلى أنه يملك الاستعداد للتغيير قبل وجود بثينة وليس بسببها. ومن الملفت أيضاً أن يتحدث زكي في هذا المشهد إلى كريستين تحديداً، وقد لجأ إليها أول ما لجأ عندما اصطدم بشقيقته وطردته من الشقة. فكريستين بجانب أنها المرأة التي كان يمكن أن يتزوجها زكي في الماضي، فهي امرأة أجنبية، ما جعل بقائهما كصديقين منطقياً، وما جعل رؤية زكي للعلاقات النسائية منطقية أيضاً؛ فرؤيته مرتكزة على أهم ما يميز علاقة الغربيين بالنساء، ألا وهو القبول، بعكس ما فعله عزام وما تعرضت له بثينة. إن زكي لا يجبر إحداهن على شيء، لا يستغلهن بأي شكل، بل يأتين إليه -على حد وصفه- برغبتهن ويرحلن وهن في غاية السرور، ولذلك يأمل زكي أن يغفر له الله. ولذلك يستحق زكي أن يكون بطل عمارة يعقوبيان وليس غيره، فهو الوحيد الذي لم يمارس الاستغلال بطريقة أو أخرى، وقد أحبته بثينة فقط لأنه احترمها، ومن الملفت أنهما في مشاهد تطور العلاقة بينهما رقصا على أغنية فرنسية واتفقا على السفر إلى باريس.
(اقرأ: ملخص كتاب فن الشعر.. والتحول في منتصف القصص)
ويجدر الإشارة هنا إلى أن عزام في سيناريو عمارة يعقوبيان كان هو الخصم بالنسبة لزكي البطل، أي أن دولت كانت الخصم ضد زكي في قصته الخاصة، وعزام كان لزكي خصماً آخر على مستوى الفيلم ككل. وذلك لأن كليهما يسعيان إلى النساء، ولكن البطل يفعل من خلال التراضي ثم الحب، أما الآخر فيقوم بذلك بواسطة الاستغلال والقهر، ومن الملاحظ أن معظم مشاهد زكي وعزام تأتي متعاقبة. ويُلاحظ أيضاً أن لعزام خطاً درامياً إضافياً وهو صراعه ضد كمال الفولي (خالد صالح)، في حين لم يكن لزكي خطاً آخر مشابهاً، هذا لأن زكي باشا حقيقياً ابن باشا، ولذلك فهو ليس في حاجة لأن يسعى لهذا الأمر، مثلما كان يفعل عزام. ونلاحظ أن زكي كان يرفض أن يلقب عزام بكلمة باشا في أحد المشاهد، وبعدها مباشرة نلاحظ إصرار فانوس على أن يلقب زكي بكلمة باشا حين جاء المحضر إلى المنزل. وكذلك تقرر بثينة أن تناديه بزكي باشا، وفي مشهد آخر حيث كان يجلس برفقة بثينة أمام التلفاز، جعل يتهكم على خطاب عزام في المجلس، والذي كان يتحدث فيه عن النساء والتعري، وأثر ذلك على الأخلاق!!
ذروة عمارة يعقوبيان
واستمرت القصص الأخرى في التطور، فاستغل كمال الفولي تجارة عزام في المخدرات، وهدده بالطرد من المجلس لمّا رفض عزام أن يشاركه في توكيل سيارات، ما يعني أن أمثال عزام قادرين على التوسع أكثر فأكثر بغير رادع، لكن تحت سيطرة ومشاركة من الكبار. وبعد أن كانت الجماعة تستغل طه، أصبح طه من يستغلهم أو يستخدمهم للانتقام من الضابط الذي عذبه في السجن، والذي استغل في ذلك نفوذه. وطولبت بثينة بأن تخدع زكي وتجعله يتنازل عن شقته لحساب أخته، مستغلة في ذلك ثقته فيها. واتضحت حقيقة حازم وعلاقته المضطربة بأبيه في الطفولة، حيث كان يهمله ويهمل زوجته ولذلك كانت تخونه، ما جعل حازم يسقط في شرك الخادم، الذي استغل احتياجه للاهتمام ليعتدي عليه.
(اقرأ: تراب الماس.. والتشابه مع عمارة يعقوبيان)
وفي هذا والقت يجيء المشهد الرئيسي الشهير، "إحنا في زمن المسخ"، فبعد أن كانت عمارة يعقوبيان (مصر) آية في الجمال والرقي، تحوي بداخلها الغني والفقير، الخواجة واليهودي، كل في مكانته، أصبحت مسخةً يمقتها أبنائها، لا تسير أمورها سوى بالواسطة والاستغلال. وهكذا يكون سيناريو عمارة يعقوبيان قد قال كلمته، وما يبقى إلا أن يغلق خطوطه الدرامية، فيُقتل طه وكذلك حازم رشيد، ويستمر عزام في مشروع الباشوية، ولكن تحت سيطرة كمال الفولي.
ونعود إلى قصة البطل فنصل إلى أصعب اختبار يواجهه الأبطال في رحلتهم، فقد استطاعت دولت أن تقتحم مكتبه ومعها الشرطة، لتضبطه متلبساً في الفراش مع بثينة. والمفارقة هنا -والتي جعلت الاختبار هو الأصعب- أنّ بثينة ليست أنثى مثل أي أنثى دخلت حياة زكي، لقد أحبها وأحبته ورفضت أن تستغله، ما جعل ردة فعله ضد دولت في منتهى القوة، خاصة حين وصفت بثينة بالمومس، فما كان من زكي إلا أمسك بحذائه وأنهال على دولت ضرباً، مدافعاً عن شرف محبوبته.
المشهد الختامي في عمارة يعقوبيان
ومن ثم نصل عند المحطة الأخيرة وهي مشهد الختام، وفيه يتزوج زكي من بثينة، ونراهما يمشيان في الشارع فجراً بملابس الزفاف، دون زفة ودون أي تقاليد شرقية، حتى فرحهما كانت تعزف فيه كريستين أغنية فرنسية. وبذلك سردت قصة زكي من خلال خمس وقفات/مشاهد رئيسية تحكي تحوله بسلاسة شديدة، لدرجة إذا شاهدت المشاهد الخمس فقط تستطيع أن تفهم تسعين بالمئة من قصته، ففي مشهد البداية يلتقط زكي فتاة ليل، ثم نقطة الهجوم ضد دولت نتيجة لما فعلته فتاة الليل، ثم نقطة المنتصف حين يتفكر في أمر الزواج، والاختبار الأصعب الذي يضرب فيه دولت دفاعاً عن بثينة، ومشهد الختام الذي يتزوج فيه بثينة. وبذلك تُتمّم القصة، ليبرز بالنظر إلى مشهدي البداية والنهاية التحول الجوهري في رحلة زكي.
وربما يرمي فيلم عمارة يعقوبيان من خلال اللقطة الأخيرة -حيث زكي وبثينة وسط نور الفجر الخافت- إلى أنه وسط كل هذه الشرور ما يزال الخير موجوداً.
تم.
أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.