استفادت السينما من تجربة بريخت المسرحية والتي سميت بالمسرح الملحمي، وفيما يلي تحليل نقدي لأحد الأفلام السينمائية المصرية المتأثرة بعناصر مسرح بريخت الملحمي، وهو فيلم مواطن ومخبر وحرامي إخراج داوود عبد السيد.
قدم المخرج الألماني برتولد بريخت تطويراً كبيراً في المسرح، يتلخص في عمده إلى أن يكون المشاهد في حالة من الوعي واليقظة أثناء متابعة المسرحية، لا أن يكون مندمجاً فيها شعورياً متعاطفاً مع شخصياتها، وتوجه بريخت لأن تتمثل متعة المشاهد في تلك اللذة النابعة من التفكير فيما يتابعه المشاهد بذهنه اليقظ، بدلاً من تلك التي تغيب المشاهد عن طريق الإيهام بحقيقية ما يراه.
شخصيات المواطن والمخبر والحرامي
يعتمد داوود عبد السيد في فيلم مواطن ومخبر وحرامي على راوي خارجي، فيعرفنا الراوي في بداية الفيلم بطبيعة شخصية كل من الأبطال الثلاثة، أولهم يكون شريف المرجوشي المطرب المسجون، الذي قام بدوره المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم، والذي يصفه الراوي بأنه جزءٌ من روح السجن. وثانيهم المخبر فتحي عبد الغفور وقام بدوره الفنان صلاح عبد الله، فيصفه الراوي بأنه مثال للرجل المتوازن. وأخيراً المواطن سليم سيف الدين والذي قام بدوره الفنان خالد أبو النجا، وفي الفيلم كان الفنان الذي تخلو حياته تقريباً من المنغصات.
ومن هنا تظهر أولى العناصر البريختية في مواطن ومخبر وحرامي، ألا وهي كون الشخصية تمثل طبقة أو شريحة اجتماعية معينة، وقد قال الراوي فيما بعد خلال الفيلم أن شخصية المخبر فتحي هو حلقة الوصل بين طبقة المواطن سليم وطبقة الحرامي شريف، كما أنه حين مارس سليم الحب مع حياة الآتية من طبقة شريف، ثم أدّعت أنها حبلى واتضح أنها كانت تكذب، قال الراوي إن ما حدث علَّم سليم درساً صغيراً، وهو عدم إزالة الحدود بين الطبقتين، وأن يبقى سليم في طبقته التي اعتاد على قواعدها.
الانفصال الشعوري في مواطن ومخبر وحرامي
بعد مفاجأة سليم بخضوعه لمراقبة طويلة من قبل المخبر، والذي اتضح أنه يعرف كل شيء عنه، يطلب المخبر من سليم أن يجد وظيفه لابنه، ويحصل الابن على وظيفة بطريقة غير معلومة، فيظن فتحي المخبر أن سليم هو السبب، ويقدم له حياة كهدية لتعمل خادمة في بيته. ومن الملاحظ هنا فيلم مواطن ومخبر وحرامي، وكذلك في مواقف أخرى فيما بعد، أن داوود عبد السيد قدم لنا من خلال راوي الفيلم مشاعر ومواقف الشخصيات بطريقة مباشرة، فقال إن قوة مشاعر المخبر هي ما أجبرت سليم على عدم نفي الخدمة وقبوله حياة، كما أخبرنا الراوي أن حياة لم تترك له سبباً يدفعه لتسريحها.
وقد قدم لنا داوود عبد السيد معلومة مراقبة فتحي لسليم لفترة طويلة في شكل غرائبي مضحك، فنرى فتحي يقف في الحمام، بينما سليم يستحم ويستلقي بجواره على السرير ليحكي ما يعرفه عنه. وحين كانت حياة تحكي لسليم عن السيدة التي كانت تطرق باب المطبخ ليلاً، ظهر بوضوح أن أداءها التمثيلي غير متماشٍ مع الصوت الذي تحكي به ما حدث. وكأن كل هذه العناصر السابق ذكرها، منها وجود راوي من الأساس يعرفنا بما يحدث، جمعها داوود عبد السيد لتقوم بفصل المشاهد شعورياً عما يراه في الفيلم، حتى لا ينفعل ولا يتماهى ويبقى في حالة من الوعي واليقظة. وهذا الانفصال الشعوري في مواطن ومخبر وحرامي أحد أهم ما نحا له المخرج برتولد بريخت في مسرحه الملحمي، بالإضافة إلى وجود تعليق شعري في المسرح بين كل مشهد وآخر، يضارع صوت الراوي في فيلم داوود عبد السيد. وهناك تفصيلة في شخصية فتحي وهي أنه عادة ما يسأل ويجيب نفسه، وكأن الشخصية نفسها في حالة انفصال شعوري، وكذلك شخصية الحرامي الذي اسمه شريف!
الفوضوية في مواطن ومخبر وحرامي
ولوحظ أن فيلم مواطن ومخبر وحرامي إلى حد كبير يبدو وكأنه بلا رأس ولا ذيل، فقد استمرت حياة سليم بطبيعية بعد الخدمة التي لم يؤدها لفتحي ودخول حياة لبيته، وما حكته له حياة حول المرأة الغريبة التي كانت تطرق الباب ليلاً لم يسبقه مقدمة ولم يعقبه توابع درامية، وقد سُرقت سيارة سليم في بداية الفيلم بلا أي مبرر درامي، وتغيرت حياة فأصبحت تتكلم كثيراً مع سليم، وسرقته أيضاً بلا أي مقدمات درامية. كلها عناصر اعتمد عليها المخرج داوود عبد السيد لصرف ذهن المشاهد عن تتبع حدث بعينه على أنه هو ما يسمى بنقطة الهجوم Point of attack، أو الحدث المغاير الذي سيتعرض له البطل وتتغير حياته من بعده كما هو متعارف عليه في البناء التقليدي للقصص. وفيما بعد قد ذكرت حياة أنها سرقت سليم بسبب غواية الشيطان، وهو أمر مقبول واقعياً، لكن درامياً أو بمعنى أدق لحظة متابعتنا لمشهد السرقة لم نشعر بأي مبرر أو ربما أي مشاعر تجاه ما يحدث، هذا لأن داوود عبد السيد تعمّد تقديم الأحداث دون تسلسل منطقي واضح، حتى يبقى المشاهد في حالة الانفصال الشعوري التي أرادها، متأثراً بمسرح بريخت الملحمي. فنجد فيما بعد أن الأغراض المسروقة استعادها له فتحي فيما عدا الرواية، وأدعت حياة أنها حبلى ثم أتضح أنها تكذب، وتدخل الراوي لحظتها ليؤكد لنا أنها ليست حبلى حقاً حتى لا ننتظر ولا نتابع لنعرف الحقيقة. وغيرها الكثير من التفصيلات التي من شأنها الإبقاء على الإيقاع والتتابع مشابهين لإيقاع وتتابع الأحداث في الحياة الواقعية، وكذلك إبقاء المشاهد في حالة وعي وليس تماهٍ.
تحطيم هالة الألفاظ في مواطن ومخبر وحرامي
وقد كان يعمد بريخت إلى تحطيم هالة الألفاظ الضخمة ذات القدسية لدى المشاهد، وهذه من أوجه تأثر مواطن ومخبر وحرامي بمسرح بريخت الملحمي، من خلال قيام شعبان عبد الرحيم بدور فقير مثقف ينطق بكلمات شديدة الثقل غير مناسبة لهيئته ومهنته، وكذا خلفية المشاهد عن الممثل نفسه، فمن المعروف عن شعبان عبد الرحيم -رحمه الله- التلقائية المفرطة وانعدام الثقافة حد إثارة السخرية. ومن ناحية أخرى فتحدث الحرامي بهذه الطريقة في بداية الفيلم يجعل المشاهد تلقائياً في حالة انفصال شعوري، فبحسب خلفيتنا عن الممثل، كيف نصدق أن يكون مثقفاً وذا وعي بالغ؟ ومع تقدم الأحداث يتضح أنه مدعي الثقافة، ورغم إشارة الفيلم إلى اتصال شريف بالطبيعة بشكل ما، إلا أن مخالفة الفيلم لتوقعات المشاهد بهذه الطريقة يبقيه يقظاً غير متماهٍ.
(اقرأ: تأثر فيلم حكاية الأصل والصورة بمسرح بريخت)
الموسيقى في مواطن ومخبر وحرامي
وكان استخدام الموسيقى في فيلم داوود عبد السيد، مشابهاً لما نحا له مسرح بريخت الملحمي، بحيث تكون الموسيقى في حالة تضاد أو تعليق ساخر لما يراه المشاهد، وفي فيلم مواطن ومخبر وحرامي في مشهد نرى فيه حياة وهي تنظف منزل سليم في دأب وصمت، نسمع موسيقى كارمينا بورانا الملحمية فيما لا يتناسب مع ما نراه، حتى تؤدي الوظيفة المنشودة من تغريب وانفصال شعوري.
وكذلك كون فيلم داوود عبد السيد ينتمي إلى مدرسة الواقعية السحرية في السينما، والتي تتناول أموراً غرائبية في ثنايا أحداث واقعية منطقية، يعد منحاً بريختياً أو استخدام خلاق من داوود عبد السيد للوصول لغرض التغريب الذي نحا له بريخت، حيث إن عدم واقعية بعض الأحداث في مواطن ومخبر وحرامي يسهم في جعل الجمهور يقظاً وواعياً وغير مندمج شعورياً.
التعليق الصوتي في مواطن ومخبر وحرامي
وقد كان راوي فيلم مواطن ومخبر وحرامي أحياناً ما يقول عكس ما نراه على الشاشة، وكأنه تعليق ساخر عليه، فمثلاً يتحدث عن علاقة شريف بمديحة فيقول إنه أعجب بثقافتها وبرقيها، بينما نراها تضحك بطريقة سافرة، ويعلق على اقتحام فتحي مجال السياسة وبينما نرى فتحي يخطب ويهتف في تكلف يتحدث الراوي عن نزاهته، ويضيف في نهاية الجملة أن صوت فتحي الجهوري أحد الأشياء اللازمة لاتصاله بالسياسة في شكل ساخر. ويقوم هذا النمط من التعليق ليس فقط بفصل المشاهد شعورياً، بل أحياناً إبراز المعنى المراد.
وقد قدم المخرج داوود عبد السيد هذا النوع من التعليق المعاكس، الذي من شأنه إبراز المعنى المراد، في فيلمه التسجيلي وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم، حيث كان المعلق يتحدث في تهكم حول عدم أحقية الفلاحين البسطاء في الحصول على تعليم، في حين كان موضوع الفيلم يتناول رغبة وأحقية الفلاحين في ذلك.
تم.
أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.