السينما الشكلية.. شرح نظرية أيزنشتاين في السينما - الجزء الثاني

نظرية سيرجي أيزنشتاين في السينما

استكمالاً للجزء الأول من شرح نظرية سيرجي أيزنشتاين في السينما، نعرض في مقالنا هذا نظرية المونتاج عند أيزنشتاين والجاذب السائد.

(اقرأ: الجزء الأول نظرية أيزنشتاين) 

ايزنشتاين


تأثر نظرية سيرجي أيزنشتاين عن المونتاج بشعر هايكو

اعتمد شعر هايكو على صياغة وحدات كتابية، مسجلاً سلسلة قصيرة من إدراكات الحس تدفع العقل إلى خلق معناها محدثاً أثراً سيكولوجياً دقيقاً، أي إذا تغير ترتيبها تعطي معنى أو إحساس مختلف، وكل جملة يمكن أن ينظر إليها كجاذبية منفردة، وهكذا يكون المونتاج

غراب وحيد

على فرع لا أوراق عليه 

في أمسية من الخريف

وبنفس مبدأ نظرية هايكو وجد أيزنشتاين في العناصر المكونة للقطة أو الجاذبيات -كما أطلق عليها أيزنشتاين- مثل الأوزان والأحجام والكتل والظلام والنور والمسافات أساساً لديناميكية السينما، ولكن رأى أيزنشتاين أن التصادم بين فكرتين هو ما يجعل لها معنى، فصورة طائر وفم تعني يغني، بينما طفل وفم تعني صراخ! أي أن تغير الجاذبية أعطى معنى جديداً تماماً، وليس تنويعاً لنفس المفهوم. وسجل أيزنشتاين قائمة بالعناصر المذكورة وغيرها من الجاذبيات المتاحة لصانع الفيلم السينمائي، وكذلك سجل أيزنشتاين الأنواع العامة للتأثير المعطى من تصادم هذه الجاذبيات. رأى أيزنشتاين أن صراع الجاذبيات يمكن تنظيمه حسب الإيقاع أو النبرة أو النغمة التوافقية، فتدرك حواسنا الجاذبيات في كل لقطة، ويربط عقل المشاهد بينها حسب تشابهها أو تضادها خالقاً المعنى، اللقطات -قال أيزنشتاين- مجرد دافع، والتفاعل الخاص بين اللقطات على مستوى الطول والإيقاع والنبرة وغيرها، هو ما ينتج المعنى، أي المونتاج.


نظرية المونتاج عند أيزنشتاين ودخول الصوت للسينما

تبنى مونستربرج وجهة نظر بنائية للمونتاج (1+1=3)، بمعنى الجمع بين لقطتين بينهما علاقة، مثل لقطة رجل يبتسم واللقطة التالية نرى ما يبتسم بسببه، وعُرضت تلك النظرية من خلال تجربة كوليشوف المعروفة. ولكن طور أيزنشتاين المونتاج على أنه مونتاج تصادمي (1-1=3)، بمعنى الجمع بين لقطتين ليس بينهما علاقة مباشرة مثل لقطة لفرار المتظاهرين -من فيلم Strike إخراج أيزنشتاين- ثم لقطة لثيران تذبح فتعني كبح ثورتهم. ويعتمد المونتاج بالنسبة لنظرية أيزنشتاين على تصادم اللقطات في ظل الموسيقى المتصلة عبر الفيلم الصامت، فنجد في كتاب الإحساس الفيلمي تأليف سيرجي أيزنشتاين نموذجاً للقطات من فيلمه Alexander Nevesky مرسومة ومعها تخطيط للموسيقى المصاحبة لكل لقطة، وكلا النظريتين الخاصتين بالمونتاج سواء البنائي أو التصادمي، تعتمدان على القيمة البصرية للقطة والتي تشكل منطقية القطع، لكن دخول الصوت سيضعف من القيمة البصرية، فبدلاً من أن يتم القطع من نظرة الرجل إلى ما يراه في اللقطة التالية، سيتم القطع من لقطة يتكلم فيها الممثل عن شيء ما، إلى لقطة يظهر فيها الشيء، فيكون هنا سبب القطع هو شريط الصوت وليس الصورة التي هي أساس المونتاج البنائي والتصادمي، وأساس الفيلم السينمائي.

وقد كان يفكر أيزنشتاين كيف يمكن لعناصر معينة أن تتحد لتخلق تجربة فيلمية، ورأى أن الأفلام الناطقة ستكون رائجة أكثر من الأفلام الصامتة، ولكن هذا الصوت الذي سيضارع الحركة على الشاشة، سيدمر نظريته واستخدامه للمونتاج، فإذا كان لكل لقطة صوت منفصل تأثيره مساوي لتأثير الحركة -حسب نظرية التحييد- سيزيد الصوت من استقلالية كل لقطة. فذهب أيزنشتاين إلى استخدام الطباق الموسيقى للصوت، يعني استخدام الصوت المسجل بنفس نمط استخدام الموسيقى المصاحبة للفيلم الصامت، فرأى في التسجيل الصوتي طريقة لدمج الحوار والمعلومات، والموسيقى أيضاً، والتي هي أرقى بكثير من كتابة الحوار على الشاشة. قبل أن يؤيد أيزنشتاين الألوان في السينما، وقال إنها ستكون إضافة لنظام معقد من الجاذبيات التي يمكنها التفاعل مع غيرها، وود أيزنشتاين أن تتطور الأفلام لتصبح ثلاثية الأبعاد بنفس الشكل، لأنه رأى فيها جاذبيات جديدة مثل السعة والمكان، وأراد أيزنشتاين تفتيت واقعية الصوت واللون والأبعاد الثلاثة وتحييدها، واعتبر الصوت مفاتيحاً جديداً على آلة العزف السينمائي.


اختلاف نظرية أيزنشتاين عن الجيشتالت وتأثره بالارتباطيين 

أبتعد أيزنشتاين عن سيكولوجية الجيشتالت التي تؤكد التجربة بأكملها (الكل) التي تمتص وتمد المؤثرات (الجزء) بالمعنى، بينما أهتم أيزنشتاين ببافلوف الذي كان يعمل على مستوى مغزى المؤثرات بمفردها، أي العمل على الجزء وليس الكل. وتأثر بالارتباطيين الذين فتتوا عملية الإدراك إلى متتاليات من العناصر التصويرية الفردية، التي ترتبط لا بالنحو كما في اللغة إنما بالتصادم الصرف، وقال تتشينز عالم النفس الشهير إن الأمر يحتاج لإحساسين على الأقل لاستجلاء معنى، وهذا تفسير واضح لنظرية أيزنشتاين عن المونتاج.


أيزنشتاين ونظرية الجاذب السائد 

أدرك أيزنشتاين أخيراً أن تضارب اللقطات وحده لا يمكن أن يحدد أثر الفيلم السينمائي ككل، وأن المونتاج يفسر المغزى على مستوى جزئي من الفيلم، وليس على المستوى الشامل، ففي أي لقطة توجد جاذبيات كثيرة جداً، إذا ربطنا لقطة (أ) بلقطة (ب) على أساس القيم الضوئية المتضاربة، هل يمكن أن نربط لقطة (ب) بلقطة (جـ) التي تتفاعل مع (ب) فيما يتعلق باتجاه الشاشة؟ وماذا يحدث لقيمة (ب) الضوئية؟ فوصل أيزنشتاين إلى أن كل لقطة لها جاذبية سائدة وكثير من الجاذبيات الثانوية، ويكون السائد في الفيلم الروائي هو ما يمليه خط القصة الرئيسي، ففي فيلم بوليسي مثلاً سيكون القاتل الهارب هو الجاذب الرئيسي وضوء القمر والظل وما غيرهما ثانويين، أما في فيلم تجريدي السائد فيه غير الحبكة، فسيكون ضوء القمر مثلاً هو السائد ويتتبع الفيلم نمو القيم الضوئية، وليس القاتل.

في الأدب يسود نظاماً واحداً ومن حوله عدد من الأنظمة المتفاعلة -حسب الناقد جاكوبسون، ففي الشعر يسيطر تشابه الحروف الأخيرة مثلاً، وكذا الرواية والتصوير وغيرهما. تصادمت تلك النظرية مع نظرية التحييد، فعاد أيزنشتاين للمقارنة بالموسيقى ورأى أن كل قطعة موسيقية يكون بها لحن سائد هو ما يلفت انتباه المتلقي، وأنغام توافقية تكون ثانوية، وبدأ أيزنشتاين في تأكيد المونتاج الذي يبرز خطوطاً أخرى لنمو الفيلم ككل، ولم يعد ينظر للمؤثرات منفصلةً. وبرغم ذلك أيد أيزنشتاين تحييد العناصر، ولكن سمّاه التكافؤ الديموقراطي، أي الاهتمام بكل عناصر الفيلم السينمائي السائد منها والثانوي على حد سواء، ضارباً المثال بتأثيرية المؤلفين الموسيقيين ديبوسي وسكريابين المرتبطين بالسينيثيزيا.

وأخيراً تطورت رؤية أيزنشتاين للفيلم السينمائي، فرأى أن صانع الفيلم لا ينبغي أن يربط أجزاء المونتاج آلياً متتبعاً خطاً سائداً، إنما يوزع بإحساسه وحدة كلية توزيعاً أوركسترائياً، مكوناً مونتاج متآلف الأنغام ينتج عنه وحدة عن طريق التوليف، إن هذه النظرية في مستوى أعلى من المونتاج بالضبط كما كان المونتاج أعلى من الجاذبيات. وبالتالي تطورت نظرية أيزنشتاين من الشكل الميكانيكي الذي يهتم بحركة الفيلم وتصادم لقطاته، إلى الشكل العضوي الذي يهتم بالمغزى الكلي من الفيلم.


تأثر نظرية أيزنشتاين عن الفيلم بجان بياجيه

- التمركز حول الذات:

في رأي العالم النفسي بياجيه فإن الأطفال بين الثانية والسابعة لا يمكنهم الفصل بين ما يمثلونه وذواتهم، والمشاهد -في رأي أيزنشتاين- يتبنى ما يشاهده على الشاشة كتجسيد لتجاربه الإدراكية السابقة.

- الرمز المحسوس الأول:

في نفس المرحلة العمرية وجد جان بياجيه أن لدى الأطفال رموز أيقونية في الطبيعة تحاكي ما ترمز له، وقد أبدى أيزنشتاين إعجابه بالرمزية لدى قبيلة فلبينية ترحب بمولودها الجديد عن طريق فتح كل أبواب القرية.

- التفكير المونتاجي:

رأى جان بياجيه أن الأطفال يدركون المعنى باختبارهم الحالتين النهائيتين للشيء، دون إدراك ما توسطهما من مراحل، مثل صب الماء في إناء أطول وأضيق، يظن الطفل أن الماء قد ازداد، وكذلك هاجم أيزنشتاين اللقطات الطويلة في المونتاج، واهتم بتصوير شذرات ثابتة من الحدث ينشطها مونتاج ديناميكي.

- الكلام الداخلي:

يتعامل الأطفال عند جان بياجيه في عالم من الكلام الداخلي مكون من صور مترابطة، وعند التعرض للخبرات الخارجية يعدلون من نظامهم الداخلي حتى يناسب المحيط، ورأى أيزنشتاين أن العملية تحدث لا شعورياً عند استقبال الصور المتحركة على شاشة العرض السينمائي، ثم تتحول فتعطي سببية للعوامل المتضاربة المرتبطة بصرياً، وأخيراً تعرض محاولة جادة للتوفيق بين المتضاربات، فتجمع عوامل متعددة في حدث واحد.


خلاصة نظرية أيزنشتاين في السينما

أراد أيزنشتاين للسينما أن تنتج توفيقاً عالمياً للاستقراء الفردي القابل للتحويل، فيقدم الفيلم مدخلاً لعالم ما قبل المنطق في التفكير التصويري الذي يكون للفن فيه أعمق النتائج، حيث يخاطب الفيلم السينمائي أعمق مستويات اللاشعور، وهذا هو المغزى من الفيلم السينمائي في نظرية المخرج سيرجي أيزنشتاين.

اقرأ: نظرية أندريه بازان

تم.

أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال