في هذا المقال تحليل مسرحية بستان الكرز التي كتبها الروسي أنطون تشيخوف وعرضت في مسرح موسكو عام 1904م.
عن الدراما وتشيخوف
إن الدراما تعتمد بشكل أساسي على البشر، فتسلسل الأحداث الذي يتابعه المشاهد إنما يقع ويتتابع بفعل التفاعلات والعواطف البشرية التي تسبب المشكلات والمعاناة، والدراما تستهدف بصفة أساسية إثارة عواطف المشاهد لتوجيهه إلى فكرة معينة، أي أنها من وإلى البشر، فالدراما تختلف عن التصوير وعن الرسم وعن الموسيقى وغيرها من الفنون في أنها تعكس الأشياء من خلال الشخوص، حتى الأعمال الدرامية التي تعتمد على المكان كبطلٍ للأحداث فهي تعكس طبيعة المكان من خلال تركيزها على طبيعة الشخصيات التي تحيا في هذا المكان. ولكن عبر التاريخ اتخذت الشخصيات الدرامية منحى مقولب، بعيد بشكل ما عن الشخوص الواقعيين في تناقضاتهم وتعقيداتهم، وأضحت الشخصيات ثنائية الأبعاد، هذا طيب وذاك شرير، وكان يتعين دائماً على صناع الدراما الموهوبين القادرين على النفاذ الحاد إلى الواقع، أن ينحوا في دراماهم عن النمطية، ويرصدون البشر بطبيعتهم وحقيقتهم، وكان أحد هؤلاء هو الكاتب المسرحي الروسي أنطون تشيكوف، الذي جعل الشخصيات في مسرحه كما هي في الواقع، وليس كما يصورها المؤلف وكأنما تقف على الجمر؛ أي تتصرف وتتفاعل بشكل درامي حاد.
الشخصيات في مسرحية تشيخوف
في مسرحية تشيخوف بستان الكرز نلاحظ الطبيعة الخاصة لكل شخصية، فنرى مثلاً شخصية فيرس الخادم العجوز صاحب الـ87 عاماً، وكيف تشبع بالعبودية لدرجة أنه يرى في إلغاءها نكبة! ولوباخين التاجر محدث النعمة الذي كان أبوه عبداً عند الهانم الإقطاعية لوبوف، فنجده يحسب كل شيء بمبدأ المكسب والخسارة، فيقول إن الكرز لا يثمر إلا مرة كل عام ولا أحد يشتريه، في حين أن الإقطاعيين أمثال لوبوف وأخوها جايف يهتمون وإن كان بشكل مبالغ فيه بالأمور العاطفية، فنجدهما متعلقين بذكرياتهما في البستان، كما يهتمون بأثاث المنزل ومحتوياته. وشخصية جايف الذي يلعب البلياردو طوال الوقت في مخيلته ممثلاً ذلك بيديه، يعبر عن مدى رفاهية وفراغ هذا الشخص. لكل شخصية تركيبها الفريد وبعدها النفسي الخاص المنعزل عن بقية الشخصيات، لكل شخصية هدف وجرح وحاجة وطريقة معينة في التحدث والتفاعل، فنرى بيشيك الذي ذكر في أحد أجزاء النص أنه ينحدر من نسل حصان كاليجولا، وهو حصان امبراطور روماني مستهتر عينه في مجلس الشيوخ! حين قيل له أنه يشبه الحصان بحق قال إن الحصان حيوان جيد يمكن بيعه! وأيضاً شخصية السيد الباهت، وهو الطالب الذي يرى ويشير إلى عبثية تصرفات هؤلاء الأغنياء، الذين يقفون على حافة الانهيار ويكادوا يفقدون ضيعتهم، ولا يقدرون على التصرف بشكل مسؤول.
وقد يكون تشيكوف استغل شخصية الطالب، أو السيد الباهت، للتعبير عن بعض من آرائه الخاصة حول ما يحدث، وإن كان ذلك بصورة غير تقريرية أو خطابية، فهو لم ينه المسرحية مثلاً بتعليق الطالب على تصرفات الإقطاعيين، بل جاء حديثه عنهم عابراً متخللاً الأحداث، شأنه شأن الكثير من الثرثرات التي شملتها المسرحية، فقال إن هؤلاء يدعون الثقافة والمعرفة وهم ظالمون يقتاتون على ألم ومعاناة وجوع الفلاحين، وقد خاطب بيشيك بصراحة في إحدى المرات، فقال إنه لو عمل بشكل جاد لسد الدين، بدلاً من المراهنات التي يدخل فيها دون جدوى.
وجدير بالذكر أن هؤلاء الأبطال على رغم خواءهم الداخلي، إلا أن اهتمامهم بالأمور المعنوية والعواطف إنما يعكس روح الآدمية فيهم، مثل اهتمامهم بعدم قطع أشجار الكرز إلا بعد رحيلهم، ففي البناء التقليدي قد تجد الأغنياء جامدين شديدي التبلد، وهذا من ناحية أخرى يشير إلى أن الحدية أي الأبيض والأسود كلاهما سيء، الظلم يؤذي الظالم والمظلوم؛ فالشخص شديد الثراء يهتم بالمعنويات وبقيمة الأشياء بشكل مبالغ فيه، وشديد الفقر لا يعنى بذلك على الإطلاق، وينصب اهتمامه كله على الطعام والشراب، وفي الحالتين الوضع سلبي، حيث ينبغي على الإنسان أن يتعاطف ويقدر قيمة الأشياء بشكل متوازن.
(أقرأ أيضاً: ابتكارات فرانز كافكا في سرد رواية المسخ)
تماسك مسرحية بستان الكرز رغم العشوائية الظاهرة
وفي سياق متصل حول الثرثرة التي تعم المسرحية، وقد ووجه تشيخوف بالنقد في هذا الخصوص، الذي يوحي بعشوائية الأحداث في المسرحية، وتخليها عن السرد التقليدي محكم البناء، إلا أن تشيخوف يستخدمها للتعبير عن تدفق الواقع، وقد كتب ذات مرة في هذا السياق إن الشخصيات في الحياة الواقعية لا يطلقون الرصاص على أنفسهم، أو يلقون الخطب في كل لحظة، إنما يتحدثون عن الطقس وينفقون وقتهم في الأكل والشرب والجري وراء النساء أو الرجال. ولم يكن استخدام تشيخوف لهذا التكنيك في مسرحية بستان الكرز لأجل محاكاة الواقع فحسب، بل نجح تشيخوف في توظيفه درامياً للتعبير عن طبيعة الشخصيات، المتناثرة بشكل عشوائي ظاهرياً لكن في جوهره محكم الترابط، فعبر تشيخوف عن عدم مسئولية الأبطال الذين يتحدثون في كل شيء ويقيمون الحفلات ويوزعون البقشيش متجاهلين الكارثة الواقعين فيها، وحين يتذكرونها مصادفة يقترحون حلولاً باهتة. ويجدر الإشارة هنا إلى أن تشيخوف على الرغم من اعتماد مسرحيته على الكثير من الثرثرة، إلا أنه ارتكز على عمود فقري جعل منه عنوان مسرحيته، بستان الكرز، الذي هو محور الأحداث والعاكس لطبيعة الصراع الاجتماعي الذي يخوضه الأبطال.
تم.
أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.