رواية المسخ للكاتب فرانز كافكا تدور حول جريجور سامسا الذي يستيقظ ذات يومٍ ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة! فيدخل في صراع حيث يعوقه هذا الانمساخ عن أداء عمله، خاصة وأنه يعول أسرته ويعنى بتسديد ديونها.
كافكا وما ابتكره في رواية المسخ
اختار فرانز كافكا في رواية المسخ نوعية روائية مبتكرة تجمع بين الواقعية والفانتازيا، وكانت هذه النوعية مناسبة جداً لموضوع روايته، فلو اختار كافكا الفانتازيا التقليدية لاقتضى خرق واضح وكبير في قوانين الطبيعة، ومنها سيشعر القارئ بأن هذه الأحداث بعيدة عنه وعن حياته، ولو لجأ كافكا للواقعية بشكلها المعتاد لما كانت كافية للتعبير عن الصرخة التي أراد إطلاقها في وجه المجتمع الاستهلاكي الصناعي الذي يمسخ البشر ويشيئهم.
واستخدم كافكا في رواية المسخ الحوار الذاتي، فكان ذلك شبح تدشين لأسلوب الراوي الذاتي، الذي لم يكن بعد متاحاً في الأدب وقتما كتب كافكا روايته. كما كان اتخاذ كافكا من أفراد أسرة أبطالاً لروايته عاملاً مقوي لرسالته حيث إن الأسرة -غير أنها النموذج المصغر للمجتمع- فهي أكثر المحيطات التي ينبغي أن تقوم على المحبة والاحتواء.
المسخ وأسرته
من الملفت منذ بداية رواية المسخ هو تحول جريجور السريع -بعد استيعاب انمساخه- إلى انشغاله المفرط بكيفية قدرته على أداء مهامه الوظيفية بعد هذا التحول، لتسديد ديون الأسرة، بالإضافة إلى اهتمامه بعدم إزعاج أي من أهل البيت في ذلك الصباح الذي شهد تحوله، فقد أخذ يفكر كيف ينهض من فراشه باستخدام أرجله العديدة، وتركيبة جسمه غير المعتادة بالنسبة له، دون إحداث صوت يوقظ أو يزعج. ولم يلاحظ المسخ قسوة أهله وتجاهلهم له بعد اكتشافهم تحوله، بل كان ممتناً للأخت على عنايتها به، ومنشغلاً كل الانشغال بكيفية تعويضهم والتأقلم على هذه الحياة الجديدة، دون إشعارهم بخطر أو ضيق، حتى إنه كان يرهق نفسه بالاختباء أسفل السرير كلما دخل أحدهم غرفته. وقد ذكر كافكا على لسان المسخ -في الفصل الأخير من الرواية حين خرج لسماع عزف الأخت- كيف أنه كان يفتخر بينه وبين نفسه بمراعاته المفرطة لمشاعر الآخرين. ولهذا ربما أراد كافكا إدانة البطل تماماً مثلما أدان أهله، وإلا ما اسمى روايته باسم (المسخ)، فقد بات متشيئاً يعمل بلا توقف وبلا أدنى مراعاة لظروف أو مشاعر، إنما يوظف المشاعر في اتجاه خاطئ، فينفقها بإسراف على غيره، ولا ينفي كافكا بهذا نبل جريجور ورقة مشاعره، ولكن الإدانة تكمن في الاستخدام الخاطئ لهذه المشاعر. فيشير كافكا إلى أن المجتمع الصناعي الاستهلاكي يسلب البشر قدرتهم على التواصل السليم مع أنفسهم ومحيطهم، واهتمام المسخ المفرط بغيره على حساب نفسه أحد أوجه التواصل غير السليم، التي أراد كافكا التعبير عنها في رواية المسخ.
المسخ.. الإنسان الآلي
أجبر انمساخ جريجور الأسرة على العمل لسد احتياجاتها وديونها، ومن هنا أبرز كافكا تناسي الأب وغيره قدرتهم على العمل مثل جريجور، والاعتماد الكلي عليه كما لو كان الآلة التي إن اعتمد الإنسان عليها فأشعرته بالعجز والشيخوخة، وتلك الكلمة (الشيخوخة) هي بالتحديد المستعملة في نص رواية المسخ لوصف حالة الأب في رأي جريجور، وذلك حين أبدى تعجبه من قدرة الأب على العمل. وجدير بالذكر أن الأب كان يستمتع بحمل الأم والأخت له وإدخالهما إياه إلى غرفة النوم، قائلاً إن هذه هي الحياة التي لابد أن ينعم بها المرء في شيخوخته، ومن الملفت أيضاً أن المسخ لم يستنكر أو يحنق لما اكتشفه عن الأب من قدرة على العمل، وكذلك حين اكتشف أن لديهم أموال مدخرة لا يعلم عنها شيء، بل كان سعيداً لأنهم سيتدبرون أمورهم إلى حين تنتهي أزمة تحوله! ولا يقل أفراد الأسرة انمساخاً عن جريجور، إلا أن لكل منهم شكله وطريقته الخاصة، فالأب على سبيل المثال كان يرتدي بذلة الفرّاش طوال الوقت، وكأنه في انتظار الأمر من مرؤوسه حتى في البيت!
نهاية رواية المسخ
ومن قدرة الأسرة على العمل والحياة بدون جريجور ننتقل إلى آخر النقاط في تحليل رواية كافكا، ألا وهي سلوك الأسرة في التعامل مع جريجور. قد يتوقع القارئ إذ يلتقط مغزى رواية المسخ منذ الصفحات الأولى أن الأهل سيتجاهلون تحوله ويطالبونه بالخروج للعمل في لا مبالاة، إلا أن كافكا خالف هذه التوقعات فنجد الأهل تفاجئوا ودهشوا، وبمرور الأحداث تعاطفت الأم وبكت الأخت، ولكنهم في النهاية ما إن اكتشفوا قدرتهم على الحياة بدونه، ومع عدم احتمالهم وجوده حتى قرروا التخلص منه، ولم يهتموا حتى بمعرفة الطريقة التي تخلصت الخادمة بها من جثته. ويجدر الإشارة هنا إلى أن كافكا وصف حال جريجور بعد الانمساخ بشكل يثير اشمئزاز القارئ أيضاً، حتى يضع كافكا القارئ موضع الأهل، وموضع الاختبار، فإن شعر القارئ بالتقذذ والارتياح لفكرة التخلص منه، يصبح مداناً مثل الأهل ومتشيئاً مثلهم.
تم.
أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.