حكاية الأصل والصورة.. تدمير الجدار الرابع

قدم برتولد بريخت تطويراً كبيراً في المسرح، يتلخص في عمده إلى أن يكون المشاهد في حالة من الوعي واليقظة أثناء متابعة المسرحية، لا أن يكون مندمجاً فيها شعورياً متعاطفاً مع شخصياتها، وركز بريخت على أن تتمثل متعة المشاهد في تلك اللذة النابعة من التفكير فيما يتابعه المتلقي بذهنه اليقظ، بدلاً من تلك التي تغيب المشاهد عن طريق الإيهام بحقيقية ما يراه. وقد استفادت السينما من تجربة بريخت المسرحية والتي سميت بالمسرح الملحمي، وفيما يلي تحليل نقدي لأحد الأفلام السينمائية المصرية المتأثرة بعناصر مسرح بريخت، وهو فيلم حكاية الأصل والصورة إخراج مدكور ثابت.

حكاية الأصل والصورة


عناصر كسر الجدار الرابع في حكاية الأصل والصورة

يبدأ فيلم حكاية الأصل والصورة برجل وامرأة يمارسان الحب، ويلتفت الرجل إلى رؤيتنا لهما فيحاول التخفي خلف ساتر، ولكن تتحرك الكاميرا فنستطيع رؤيتهما، وكأن المخرج مدكور ثابت من اللحظة الأولى يود كسر إيهامنا بواقعية ما نراه على الشاشة. وبينما يتبادل محبوبان القبلات تقطع اللقطة عدة مرات حتى يمنع المخرج مشاهديه من الاندماج والتفاعل، وهذه أولى العناصر البريختية التي ظهرت في فيلم حكاية الأصل والصورة، يستمر الفيلم في كسر الإيهام بطريقة مباشرة ومعروفة هذه المرة، بأن يجعل الممثل ينظر إلى الكاميرا متحدثاً، وإمعانا في الواقعية نجد الممثل يطالب المخرج بأن ينقل وجهة نظره. 

وبمنتهى الوضوح تعلن كل شخصية عن دوافعها ورؤيتها، فيتعجب الصحفي أن جريمة قتل واحدة مثيرة، في حين مقتل الآلاف في فيتنام غير مثير، وتعارضه زميلته فيضيف الصحفي أن السيناريو لا يسمح له بأن يعبر عن وجهة نظره، فإذا بالمخرج يتدخل قائلاً إن المشاهد قد فهم أن هذه هي نقطة الخلاف بينهما، ويطلب إعادة اللقطة مرة أخرى. 

وتتزايد حدة كسر المخرج مدكور ثابت للإيهام لدرجة أن تتحدث شخصية الضابط إلى الكاميرا معتذراً عن عرض المشهد السابق مطالباً بمتابعة الجريمة! لم يكن في هذا الجزء كسر إيهام فحسب، إنما شمل عنصراً بريختياً هاماً ألا وهو وضوح دوافع الشخصيات بحيث أن كل شخصية تخبرنا برأيها وما هي مقدمة على فعله بمنتهى الوضوح من البداية، حتى يبتعد بريخت بالمشاهد عن التوحد مع الشخصيات والذي من شأنه أن يغيب ملكاته النقدية.


تفكيك التتابع في حكاية الأصل والصورة

وبجانب تواصل كسر الإيهام ودخول صوت المخرج موجهاً فريق عمله، تتوقف كاميرا حكاية الأصل والصورة عند شخصية بعينها وسط الزحام، ويظهر أنه يعرف المجني عليها، ويخبرنا الرجل ببياناته الشخصية، ثم نراه في مشهد جنسي مع خادمة منزله وطربوشه يحترق فوق البوتاجاز، ثم يكسر التتابع لقطة يظهر فيها الرجل نفسه عند الحلاق! ويعلق الأخير على عبوسه بأن جميع الأفندية أمثاله متكبرين. وبالتالي فقد أدت اللقطات غير المتسلسلة منطقياً إلى الحد إلى اندماج المشاهد وإبقاءه يقظاً أثناء متابعة الفيلم، وفي الوقت نفسه فإن ما قاله الحلاق بجانب لقطة احتراق طربوش الأفندي بينما يزني مع الخادمة كانت ذات معنى، قد يقصد به أن هذا التعالي الذي يتعامل به الأفندي لهو تعالٍ زائف، ويؤكد عليه تخليه عن كبريائه أمام شهوته مع الخادمة حد أن طربوشه (رمز الأفندية) احترق. ونرى الأفندي مع الخادمة الجديدة فيما يعني تقربه منها، مثلما تقرب من المجني عليها. ثم نستمع لعدة وجهات نظر (بمنتهى الوضوح) من الصحفيين، بينما ترى الصحفية أن المجني عليها كانت طيبة القلب، يراها الصحفي سافرة باعت جسدها.

ومن دون ثمة تسلسل سببي يتحرك بنا حكاية الأصل والصورة من جزء من رحلة القتيلة في منزل الأفندي كخادمة، إلى جزء آخر عملت فيه لدى مصنع خياطة، ويحكي لنا صاحب المصنع قصته معها، وكيف أنها حملت منه وأجهضها في تتابع مشاهد غير منتظم وغير واقعي، فنراه في مشهد يتكلم إلى شخصية في مكان ما، ثم يحدث نفسه مجيباً على سؤالها في مكان آخر وبملابس أخرى. والتسلسل غير المنطقي سواء في أجزاء رحلة المجني عليها، أو في تتابع المشاهد، بجانب الإيقاع غير المتنامي الذي نحا له بريخت كذلك، والذي اعتمد عليه المخرج مدكور ثابت في فيلم حكاية الأصل والصورة، تفضي مجتمعة إلى نتيجة واحدة، ألا وهي تفكك السيناريو، والذي من شأنه الحفاظ على وعي المشاهد أثناء المتابعة، بدلاً من الاندماج والتماهي، وهي من الأهداف البريختية، فقد كان يعمد بريخت إلى أن تكون مشاهد المسرحية كوحدات مستقلة، متخلياً عن الانتقال المسبب بين جزءٍ وآخر، في إطار تركيب تصادمي، يفصل بينها تعليق شعري يضارع مشاهد رأي الصحفيين في المجني عليها في فيلم حكاية الأصل والصورة. 


التعليق الخارجي في حكاية الأصل والصورة

ويتواصل تعليق الصحفيين على الجريمة، فيما يساوي التعليق الشعري في مسرح بريخت الملحمي، فنجد الصحفي يصرخ في زميلته مستنكراً تعاطفها مع المجني عليها قائلاً إنه لا يمكن أن يتعاطف معها حيث لا يوجد مبرر لارتكابها الرزيلة. وبذلك حكاية الأصل والصورة على ما نحا له بريخت فيما يخص الشخصيات، ألا وهو الابتعاد عن تعقيدات الشخصية الداخلية، وجعلها -إن جاز القول- ثنائية الأبعاد، حيث تبقى على نفس الموقف منذ البداية وحتى النهاية، وتكتسب قيمتها ليس من خلال تعقيداتها النفسية وتشابه المُشاهد معها الذي يدفع الأخير للتماهي، إنما قيمة الشخصية الحقيقية في علاقاتها بالشخصيات الأخرى التي تقابلها.


الشخصيات في حكاية الأصل والصورة

ومرة أخرى من دون تسلسل منطقي ومتنامي لأجزاء حكاية الأصل والصورة يأخذنا مدكور ثابت إلى رجل أعمال نفهم من تتابعه الذي يُسرد بنفس الطريقة -مع إضافة وجود الضابط في حفل رجل الأعمال يتابع ما يحدث دون أن يشعر به أحد، وكأن الفيلم يجسد لنا التحقيق الذي يجرى، فيعرف الضابط ما حدث في هذا المكان- نفهم من قصة رجل الأعمال أن المجني عليها كانت أشبه بلعبته حتى ملّها فأتى بلعبة جديدة، وهو كذلك يفعل مع امرأة جديدة في الحفل. 

وبعد أن يعرفنا رجل الأعمال بنفسه مثلما حدث مع سابقيه يعود بنا المخرج مدكور ثابت (دون سبب منطقي) إلى أحد ممن أدعوا أنهم قتلوا المجني عليها في بداية الفيلم، فنعرف منه طبيعة علاقته مع المجني عليها، والأهم أنه يريد أن يعترف بقتلها فقط ليشعر بوجوده! وبذلك ومن دون الخوض في دواخله النفسية يكون حكاية الأصل والصورة قد طبق أحد جوانب رؤية بريخت للشخصية في مسرحه الملحمي؛ حيث تعبر الشخصية عن حالة العالم أو جزءاً منه، وليس عن حالة نفسية معينة لدى شخص، فيعكس الفيلم من خلال هذا الشخص كيف أن بعض الناس يشعرون بانعدام قيمة، قد يصل بهم إلى حد الاعتراف بجرائم لم يرتكبونها، فقط ليكونوا مهمين مرة واحدة في حياتهم.


الحقيقة ووجهة النظر في حكاية الأصل والصورة

ورغم وجود سيناريو للفيلم نجد المخرج يظهر متحيراً، ويقول إن هذا الشخص لا يمكن أن يكون القاتل، فيجيبه أحد الممثلين إنه القاتل حسب السيناريو، وهنا أراد مدكور ثابت أن ينبهنا إلى طبيعة دورنا في هذه اللعبة، وما يبتغيه التركيب البريختي لهذا الفيلم منا كمشاهدين، فمخرج الفيلم برغم معرفته بالقاتل، جعل يفكر في حالة مدعي القتل، وهذا هو ما ينبغي على المشاهد فعله؛ التفكر والنقد وتكوين وجهة نظر حيال أجزاء القصة المتناثرة أمامنا في ترتيب غير متسلسل، وهذا هو هدف بريخت الرئيسي من خلال المسرح الملحمي. ولعل إعلان فيلم حكاية الأصل والصورة عن مبتغاه الرئيسي من المشاهدين هو ما دفع المخرج لينتقل أول انتقال مسبب من جزء لآخر من القصة؛ فقد انتقلنا بعد ذلك لمعرفة حكاية القاتل الحقيقي، الذي رد على المخرج داخل الفيلم، وقد كان رده هو المثير والمسبب المنطقي لانتقالنا إلى حكايته. وبعد معرفة عملها في بيت دعارة ثم مقتلها على يد محب لها عرفها في هذا البيت، يظهر لدينا مثير جديد ينقلنا إلى آخر جزء من الفيلم، وهو مشهد قتلها، وهي ما جعلنا ننتقل إلى وصول الخبر إلى قرية المجني عليها في الريف، حيث أمها تحمل الجريدة وتصرخ وتذهب إلى أبيها، ونفهم أخيراً أنها كانت فلاحة مولعة بالبندر أي المدينة، وحين هربت من بيت أهلها أدَّعوا أنها ماتت وتلقوا العزاء وانتهت بالنسبة لهم منذ هذه اللحظة. 

وربما بسبب قسوة آخر جزء من قصة الفيلم وشحنة المشاعر القوية الموجودة به، قرر المخرج مدكور ثابت أن يكون آخر مشاهد فيلم حكاية الأصل والصورة حفل احتفال بانتهاء تصوير الفيلم! فنرى جميع الممثلين وفريق العمل يغنون ويرقصون، حتى يخرجنا مدكور ثابت من حالة الشجن والتعاطف مع القتيلة، بسبب جحود أهلها وقسوتهم عليها في نهاية الفيلم، ليذكرنا أن كل هذا مصطنع، فيستمر المخرج من خلال فيلمه في مطالبتنا بهدف بريخت الرئيسي، وهو البقاء متيقظين، وأن نتفكر وننقد ما رأيناه، مرتكزين على الانفصال الشعوري الذي هو دعامة النقد الواعي الأساسية.


تم.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال