في هذا المقال نتناول تحليل سيناريو فيلم أوبنهايمر، وكيف أن السيناريو يرتكز على ثلاث وقفات رئيسية تعبر عن صراع البطل. الفيلم من سيناريو وإخراج كريستوفر نولان، بطولة كليان ميرفي، وروبرت داوني جونيور.
لتجربة أفضل:
* * *
لقد تردد في أذن البطل صوت طرقات أقدام قوية على الأرض عدة مرات في الفيلم، ظهرت لأول مرة مع المشهد الافتتاحي، حيث نرى أوبنهايمر شاباً يرمق قطرات المياه المتساقطة في بركة، والتي تشبه مشهد سقوط القنبلة، وفي الخلفية نسمع صوت الأقدام يضرب بصوت قوي متصاعد، وقد قال أوبنهايمر في السيناريو -الذي كُتب بأسلوب المتكلم- أنه لم يستطع السيطرة على هذا الصوت في أذنيه ففتح عينيه، ليظهر في مشهد التحقيق ويبدأ الفيلم.
ولوحظ أن صوت الأقدام قد سمعه أوبنهايمر في أذنيه ثلاث مرات، تُميز ثلاث وقفات أشبه بمسامير أو أعمدة معلق عليها سيناريو الفيلم. كانت أول مرة في المشهد الافتتاحي، ومن بعدها أخذنا الفيلم في حياة أوبنهايمر الشاب، فنرى كيف كان أوبنهايمر مهووساً بفكرة عمل القنبلة الذرية منذ وقت طويل قبل بدأ تنفيذها، ما يلفت إلى الشغف الكبير الذي دفعه للإصرار على الاستمرار في بنائها. ولكن التهديدات والمخاطر أخذت في التزايد، لدرجة ظهور احتمالية أن تدمر القنبلة العالم، ولكن لأنها احتمالية ضعيفة جداً استمر أوبنهايمر.
حتى عاود صوت الأقدام الظهور مرة ثانية في منتصف الفيلم، في المشهد حيث اجتمع العلماء والمسئولين عن الأسلحة النووية، ورآهم أوبنهايمر يرسمون الدوائر فوق الخريطة على الأماكن التي يريدون قصفها، وقد رأى أوبنهايمر الدوائر التي يرسمونها كما لو كانت قطرات مياه تتساقط، مثل التي كانت في مشهد البداية، وكان هذا المشهد في منتصف الفيلم بالضبط، فكان نقطة التحول في الأحداث؛ حيث توكدت المخاطر، وتجلَّت حقيقة رغبة أمريكا في أن تكون القوة الوحيدة المسيطرة على العالم. إنه الغرور الذي كان يملأ نبرة الجنرال جروفز حين تساءل أحد العلماء عما إذا كانت هناك طريقة أخرى -دون القصف- لإظهار السلاح لليابانيين حتى يستسلموا، فقال له جروفز إنهم سيظهرون السلاح بعبارات شديدة اللهجة، مرتين، الأولى لإظهار قوة السلاح، والثانية لإثبات أنهم قادرين على صناعته مراراً ومراراً.
إن العالم بدأ يدور في اتجاه جديد، على حد وصف كيتي زوجة أوبنهايمر.
(اقرأ: ملخص كتاب فن الشعر.. التحول في منتصف القصص)
ويأتي مشهد صوت الأقدام الحقيقي، وهو تحية العلماء لأوبنهايمر أثناء خطابه، بعد نجاح سقوط القنبلة على اليابانيين، فيلفت إلى أن غرور أوبنهايمر ما قاده إلى مأساته. إن الشغف رائعٌ، والاكتشاف أروع، ولكن من الغرور الانجراف وراءهما، بغض النظر عن المخاطر المحتملة. وقد كان الغرور أيضاً هو الرابط بين البطل والخصم: أوبنهايمر وستروس، فستروس شخصاً يحرص على إظهار احترام مبالغ فيه لأوبنهايمر، نرى ذلك حين ركض ليقف أمامه ويسلم عليه. ويستخدم ستروس عادةً القرب والتلامس الجسدي أثناء التعامل مع أوبنهايمر، غير متوقعاً الرفض. كأنه يحاول الحصول على الاحترام الشديد الذي يُرضي غروره الشخصي، من خلال إظهار الاحترام المبالغ فيه لغيره. ويتعامل ستروس مع الآخر بمودة مفرطة دون أن يكون بينهم مساحة تسمح بذلك، كما لو كانت الأهمية الكبيرة التي يؤمن بها في نفسه، تجعله لا يتخيل أن الآخر قد لا يكون مهتماً به بنفس القدر. وما يرغب في إظهار الرفض الشديد إلا أناس لديهم غرور مشابه، مثل أوبنهايمر، لذلك اصطدم ستروس بأوبنهايمر منذ أول لقاء.
ونشيد هنا بأسلوب السرد المتداخل الذي اعتمد عليه مؤلف أوبنهايمر، فإن كتابة سيناريو عن سيرة ذاتية لمن أصعب الأشياء؛ حيث إن الأحداث في الواقع لا تحدث بترتيب منظم، مثل الذي نحتاج إليه في الدراما، فنجد مثلاً أن ستروس هو الخصم في قصة أوبنهايمر، إلا أنه يظهر في حياته بعد صنع القنبلة وانتهاء الحرب. ولذلك اختار المؤلف أن يحكي القصة مرتكزاً على التحقيق مع أوبنهايمر من جهة، وتقييم مجلس الوزراء لستروس من جهة أخرى. ويكون خط أوبنهايمر ملوناً، وخط ستروس بالأبيض والأسود، فتناول من خلالهما الأحداث بالترتيب الذي تقتضيه الدراما.
(اقرأ: غاندي مقاوم العنصرية.. كيف أمكن اختصار حياته في فيلم واحد)
وللمرة الثالثة يتردد صوت ضرب الأقدام في أذن أوبنهايمر، وذلك عند الوقفة الأخيرة في السيناريو، ألا وهي مشهد النهاية، حين يقول أوبنهايمر لأينشتاين -بينما يحدق في قطرات مياه تتساقط في بركة مشابهة للتي ظهرت في أول مشهد- إنهم قد دمروا العالم بالفعل، متذكراً الاحتمالية ذاتها، الأمر الذي قال كريستوفر نولان عنه إنه كان المثير الذي دفعه لصناعة هذا الفيلم. وكأن أوبنهايمر أدرك في النهاية كيف أنه انساق وراء غروره، متجاهلاً احتمالية كهذه -حتى ولو كانت نسبتها ضعيفة جداً- حتى آلت الأمور إلى ما آلت إليه، وبات أوبنهايمر -على حد وصف الكتاب المأخوذ عنه الفيلم- بروميثيوس أمريكي، الرجل الذي سرق نار المعرفة من الآلهة وأعطاها للبشر، فدمرهم وعوقب للأبد.
وأخذ صوت ضربات الأقدام يتصاعد ويتصاعد، ولكن هذه المرة فشل أوبنهايمر في السيطرة عليه فأغلق عينيه، وأنتهى الفيلم.