La La Land.. كيف تتكلم بلغة السينما؟

من أهم وأشهر القواعد في فنون الحكي -وليس في فن السينما فقط- هي قاعدة (Show don’t Tell)، وتعني ألا تخبر المتلقي بالمعلومة، بل اعرضها له. وتعد هذه القاعدة مهمة جداً في السرد السينمائي بصفة خاصة، إذ يعتمد على الصورة كعنصر أساسي للحكي. وفيما يلي تحليل سيناريو فيلم La La Land، وكيف يتحدث إلينا عبر لغة السينما من دون أن يتكلم.

فيلم La La Land إنتاج 2016م، تأليف وإخراج Damien Chazelle، بطولة Emma Stone وRyan Gosling، وهو فيلم رومانسي/استعراضي، يدور حول ميا التي تقابل سباسيتان، هي تحاول شق طريقها في مجال التمثيل، وهو يحاول إنشاء ملهى لموسيقى الجاز، وتتطور علاقتهما في إطار يشبه الحلم، وتؤثر العلاقة على أحلام كل منهما. فكيف سيكون مصير العلاقة وتأثيرها على أحلامهما؟ وهل طريق الحياة اتجاهاً واحداً إما الحب وإما الحلم؟

(اقرأ: كيف تكتب لوج لاين؟ شخصية وحدث وسؤالين)

La La Land


لتجربة أفضل:


La La Land... التأسيس لفيلم استعراضي وعلاقة مختلفة

القاعدة الأهم عند صناعة فيلم غنائي استعراضي أن تكون الرقصات والغناء تدفع الأحداث للأمام، بمعنى أن يحل الغناء محل الحوار، ويضيف الاستعراض شيئاً إلى الحدث، فبدلاً من أن نشاهد مشهداً يحدث فيه تفاهم وانجذاب بين البطل والبطلة، نشاهد استعراضاً أو أغنية تعبر عن ذلك. وفي فيلم La La Land نجد أن البداية هي الأغنية الاستعراضية (Another Day Of Sun)، ونلاحظ أن الوقت شتاءً، وبالتالي يعبر الاستعراض عن حدث فريد من نوعه، وهو أن يكون اليوم مشمساً في الشتاء. يؤسس هذا الاستعراض لنوعية الفيلم، وتمهد فكرة الشمس في الشتاء والاستعراض الغني بالحركة والبهجة لطبيعة أحداث La La Land التي تشبه الحلم، بجانب أنها تشبِّه لقاء الأبطال مع بعضهما البعض، وكأنه الشمس التي تخترق برودة الشتاء وتنشر الدفء، كل تلك الكنايات والمعاني تم التعبير عنها من خلال استعراض غنائي، دون كلام مباشر من قبل كاتب السيناريو.

وتتوالى الاستعراضات المعبرة، فتخرج ميا على أمل أن تقابل شخصاً مناسباً وسط الزحام، ولكن يظهر الاستعراض أن معظم الناس مصطنعين، لا تجد ميا بينهم من يمكن أن يغير حياتها، في حين أن البطلة -بطبيعة الحال لأنها بطلة- شخص مختلف، وتحتاج لشخص مختلف مثلها. ومن ناحية أخرى هذا هو السبب في أن ميا تفشل في اختبارات التمثيل العقيمة، لأن موهبتها أكبر من حجم وطبيعة الأدوار المعروضة، ونجد سباسيتان على الجهة الأخرى يعجز عن عزف القائمة التقليدية الموضوعة له، رغم أنه من السهل الالتزام بمثل هذه القواعد، إلا أنه لا يستطيع، فـ ميا ليست مجرد ممثلة، وسباسيتان ليس مجرد عازف بيانو.


ربيع La La Land

يتقابل ميا وسباسيتان غير مرة عن طريق المصادفة، وكأن القدر يتعمد الجمع بينهما، ويعبر الاستعراض المشترك الأول بينهما (A Lovely Night) عن المشاكسة والشد والجذب، فنجد سباسيتان يقول ضمن كلمات الأغنية إن ميا غير مناسبة له بأي حال، وتصدق ميا على قوله، ولكن ما يحدث بينهما عكس ذلك. وفي نهاية الاستعراض يقتربان من بعضهما البعض، وقبل أن تقع القبلة يرن هاتف ميا، للإشارة إلى أن وجود رجل في حياتها يعرقل علاقتها مع سباسيتان. 

ووجود المنافس في حياة أحد الأبطال -أو كليهما- أحد الحيل الدرامية لدفع المشاهد نحو التعاطف مع علاقتهما، ففي علم النفس ما يسمى بعقدة أوديب وعقدة إلكترا، وهي أن ينجذب الطفل الذكر إلى أمه، والأنثى إلى أبيها في سنين عمرهما الأولى، ويشعر الطفل بالغيرة من وجود الطرف الآخر في حياة من ينجذب نحوه، وهذه الطبيعة الفطرية يستخدمها الكتاب عادة لدفع المشاهد بغير وعي إلى التعاطف مع انتصار الشخصية على المنافس، وفي فيلم La La Land كانت ميا في علاقة بالفعل، وكانت شقيقة سباسيتان تحاول إقناعه بأن يقابل فتاة. وذلك من جهة أخرى يشير إلى إدراك الكاتب والمخرج Damien Chazelle أن ميا هي بطلة الفيلم من الناحية الدرامية، أي أن La La Land درامياً يحكي قصة ميا وليس سباسيتان، ما جعله يختار أن يكون وجود المنافس في حياة ميا أكبر وأكثر تأثيراً من وجوده في حياة سباسيتان. 

(اقرأ: في شقة مصر الجديدة.. وعقدة أوديب وإلكترا)

ورغم وجود المنافسين يتقابل ميا وسباسيتان ثانية، ويتحدث كل منهما عن حلمه، يقول لها سباسيتان إنها ليست مجرد ممثلة، ويمكن أن تكتب أدوارها لنفسها، وهي تعجب بشغفه بموسيقى الجاز، ورغبته في فتح الملهى الخاص به. قبل أن يعرض سباسيتان عليها الخروج لمشاهدة فيلم (Rebel Without Cause) في السينما، ويؤكد على أن هذا اللقاء من دواعي التحضير لاختبار الأداء الخاص بها، اعتباراً لوجود رجل آخر في حياتها، وهنا تأتي أغنية (City Of Stars) لأول مرة في La La Land، يغنيها سباسيتان بمفرده، ولا تأتي الأغنية كاملة، ربما لأن ميا ليست في حياته بشكل كامل بعد. وعند مرور ميا من أمام السينما التي سيتقابلان فيها، تجد عليها عبارة "Open"، وسيتكرر مرور ميا من أمام نفس السينما فيما بعد للإشارة إلى شيء ما. 

ولكن يعرقل لقاء ميا وسباسيتان خروجها مع خليلها وشقيقه وزوجته، ويظهر كيف أن الحوار بينهم شديد الملل، بالمقارنة مع حوار ميا وسباسيتان، يتحدثون عن السفر والفنادق وما إلى ذلك. قبل أن تسمع ميا موسيقى سباسيتان تناديها من مكان مجهول، فتنهض معتذرة لخليلها، وتجري وراء الموسيقى في طريقها إلى سباسيتان. تقابله في السينما، ويحين وقت القبلة، ولكن القبلة للمرة الثانية تتعطل، هذه المرة بسبب عطل فني مفاجئ في السينما. هذا التأخير المتكرر للقبلة من قبل كاتب La La Land إنما يأتي من أجل تعزيز وإجلال حدوثها، فقد جعلها Damien Chazelle مثل الحلم الذي كلما تعطل وتأخر كلما ازدادت لحظة تحقيقه روعة. ولذلك لم يحدث شيئاً بين ميا وسباسيتان في أول لقاء حين انجذبت نحو موسيقاه، إنما كان من المتعمد أن يتأخر التآلف والانجذاب حتى تتعزز قيمته وتقوى. وفي هذه المرة تغادر ميا وسباسيتان السينما، ويذهبان إلى أحد الأماكن التي صور فيها فيلم (Rebel Without Cause)! للتأكيد على طبيعة الحلم التي تدور فيها أحداث الفيلم. وقبل أن تقع القبلة مرة أخرى يقرر كاتب La La Land أن تتأخر، فيطير المنديل من يد سباسيتان، وعندها تحلق ميا وسباسيتان في فضاء متخيل، ويهيمان بين النجوم، قبل أن يهبطا في بطء، وتقع القبلة أخيراً، وتغلق الشاشة السوداء عليها.


صيف La La Land

وكما ذكرنا أن لعلاقة ميا وسباسيتان في La La Land تأثير مباشر على أحلامهما، لذلك يفتح السواد على ميا وهي تكتب مسرحية ستكون هي بطلتها، في إشارة إلى أن وجود سباسيتان في حياتها دفعها نحو التقدم في طريق حلمها، بشكل مختلف، تماماً مثل اختلافها واختلافه. ويحدث كما يحدث غالباً في منتصف القصص، تنعطف الأحداث في اتجاه جديد، ويبرز التساؤل الرئيسي لقصة La La Land وهو: هل طريق الحياة اتجاهاً واحداً: الحلم أو الحب؟ ونلفت هنا إلى العبارة التي قالتها ميا حين ركبت السيارة مع سباسيتان وتحركا ثم اكتشفا أن الطريق اتجاهاً واحداً، حيث صرخت ميا قائلة: "Wait one way"، وهنا كاتب La La Land يرمي إلى تساؤل قصة فيلمه من وراء هذه العبارة في هذه اللحظة تحديداً من سيناريو الفيلم.

(اقرأ: ملخص فن الشعر.. التحول في منتصف القصص)

نرى فوتومنتاج لتطور علاقة ميا وسباسيتان، يخرجان ويقبلان بعضهما البعض، هو يعزف وهي ترقص على موسيقاه، وفي الأخير يعترف كل منهما بحبه للآخر. ولكن يظهر كيث! وتظهر معه الصعوبة في تحقيق الحب والحلم معاً، فالشخص الحالم مثل سباسيتان سيكون غير قادر على توفير حياة مستقرة لمحبوبته، لأن الزواج يحتاج إلى وظيفة ثابتة، ما يدفع سباسيتان إلى العمل مع كيث. ومن قدرة سيناريو La La Land على التعبير ألا يعبر اختيار سباسيتان عن التخلي التام عن حلمه، ولا يتحدث مع ميا في الأمر بشكل مباشر، إنما تستشعر ميا أن الطريق الذي يسعى فيه سباسيتان غير متناسب مع ما كان يحلم به. وهنا تعبر أغنية (City Of Stars) التي تأتي كاملة هذه المرة، ويغنيها سباسيتان وميا معاً، تعبر عن التوتر في علاقتهما، والحزن الذي ينتظرها. وقد جاءت هذه الأغنية في المرة الأولى غير كاملة، وفي المرة الثانية اشتملها طابع الأسى وبشَّرت باحتمالية الوداع، أي لم تكن الأغنية مثالية في الحالتين، وكأن أغنية (City Of Stars) الشاهد على مضمون فيلم La La Land: عدم الكمال. وهنا نرى مشهد لـ ميا تمر بسيارتها من أمام السينما التي عرضت فيلم (Rebel Without Cause)، والذي قادهما للتلاقي والحب، ولكن تجدها هذه المرة مغلقة، فتكون إشارة من La La Land إلى أن طريق الحب الآن مغلقاً.


خريف La La Land

تسقط علاقة ميا وسباسيتان بعد المواجهة بخصوص تخلي الأخير عن حلمه، أي يسقط الحب في مواجهة الحلم، وعلى التوازي لا تحقق مسرحية ميا نجاحاً، وتعود يائسة إلى بيت أهلها، وتفكر في العودة للدراسة التي تركتها. ولكن الحلم يناديها نداءً أخير، وجدير بالذكر أن سباسيتان يصل إلى بيتها الذي أخبرته سابقاً بأنه يقع أمام مكتبة، للإشارة إلى إصغائه لحديثها واهتمامه الشديد بكل ما كانت تقول. وفي هذه المرة لا يكون هناك دور مكتوب ومطلوب من ميا تأديته، إنما يطلب منها المخرجان أن تحكي لهما قصة! لقد كان العائق أمام ميا أن الأدوار التي تختبر فيها قاصرة وعقيمة، لا تستطيع أن تبرز من خلالها موهبتها الفريدة، والآن تقرر ميا أن تخرج الطاقة التي بداخلها، بدون سكريبت وبدون تخطيط. ونلاحظ أنها لم تغني الكلمات وفي نفس الوقت لم تمثلها، بل قامت بمزيج من الأمرين معاً، لأنه حسب كلمات أغنيتها: "قليل من الجنون هو الحل، من أجل الأغبياء الذين يحلمون، من أجل الألم والفوضى التي يسببونهما".


شتاء La La Land مرة أخرى

تمر خمس سنوات، نرى ميا وقد أصبحت ممثلة شهيرة، متزوجة من غير سباسيتان ولها طفلة، ونرى سباسيتان وقد أنشأ ملهى الجاز الخاص به. وأثناء خروج ميا وزوجها تقرر فجأة الذهاب لتناول العشاء في مكان ما، وكأن حب سباسيتان يناديها ثانية، بدون موسيقى، من بعيد، من بعيد جداً هذه المرة، فتذهب مصادفة إلى الملهى الخاص به. وتكون في هذا التتابع مرتدية فستاناً أسود، وقد كانت على مدار الفيلم ترتدي ألواناً زاهية، أحمر وأصفر وأزرق وما شابه، وهي إشارة إلى أنها الآن في عالم الواقع، وليست في عالم الحلم ذي الألوان المبهجة. وكذلك نرى كل شيء في الفوتومونتاج الأخير ملوناً ومبهجاً، حيث يريد سيناريو La La Land أن يقول إن سير كل شيء بهذه الطريقة الجميلة ليس إلا مجرد حلماً جميلاً، والواقع لا يكون كذلك، وأنه لو استطاع البطلان أن يحلما كل هذا الوقت، فلا بد وأن يفيقا الآن ويعيشان في الواقع. والواقع جميل على طريقته الخاصة، لا يشبه الحلم للأسف، ولكنه يبقى جميلاً رغم كل شيء، وقد كانت نظرات ميا وسباسيتان في آخر مشهد تفصح عن هذا الإحساس، الرضا والقبول.

لقد استطاع La La Land أن يعبر عن معاني جمة باستخدام أدوات السينما الفريدة، الصورة، والحوار، والاستعراض، والموسيقى. ومن الملاحظ في اللقطة الأخيرة بين ميا وسباسيتان، أن الموتيفة الموسيقية التي نسمعها في الخلفية هي نفس الموتيفة التي سمعناها حين قالت ميا لسباسيتان سابقاً إنها سبتقى تحبه على الدوام، وحينها قال لها إنه سيبقى يحبها كذلك، وهنا يدفعنا La La Land لاستدعاء هذه الجملة ثانية في هذه اللحظة، وإن لم يستطع المشاهد الالتفات إلى ذلك، فإنه يستشعره وجدانياً، مثلما استطاع سيناريو La La Land أن يفصح عن الكثير من المعاني والمفردات دون كلام مباشر.


تم.

أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال