غاندي مقاوم العنصرية.. كيف أمكن اختصار حياته في فيلم واحد؟

 فيلم غاندي 

تأليف جون بيرلي، عن سيرة موهانداس كرامشاند غاندي، زعيم مقاومة اللا عنف السلمية ضد الاستعمار البريطاني للهند، من إخراج ريتشارد أتينبورو، وبطولة بين كينجسلي. 

إن حياة موهانداس غاندي شديدة الثراء على كل الأصعدة، سواء الأحداث أو الفلسفة أو التجربة أو الدروس، وفي هذا المقال نتناول تحليل سيناريو فيلم غاندي 1982م، وكيف أمكن اختصار حياة شخص كهذا في فيلم درامي واحد؟

غاندي


المدخل الدرامي لحياة غاندي

عند الكتابة عن سيرة ذاتية لابد من البحث عن مدخل إنساني، وسيرة غاندي من أكثر السير العامرة بالأحداث حتى أن صناع الفيلم كتبوا في بدايته: "لا سبيل لتناول حياة رجل في قصة واحدة وإعطاء كل عام أو حدث ما يستحقه، كل ما نستطيع فعله هو أن نكون أمينين في تسجيلنا ونحاول جاهدين إيجاد طريقاً صحيحاً لقلب الرجل". 

والمدخل الإنساني الذي اتخذه مؤلف فيلم غاندي هو نفسه المدخل الذي اتخذه غاندي: المدخل الشخصي، وهو حادثة طرد غاندي شاباً من القطار بأسلوب مهين، لأنه يركب في الدرجة الأولى في حين يفرض الاحتلال البريطاني عدم ركوب الملونين أمثاله إلا في الدرجة الثالثة، كما أن الملونين غير مسموح لهم كذلك بالمشي فوق الأرصفة في الشوارع. 


تيمة فيلم غاندي

أما فيما يخص السرد فقد اعتمد الكاتب على السرد الخطي، ولذا كان عليه أن يجد تسلسلاً منطقياً للأحداث الواقعية التي تكون بطبيعة الحالة مترهلة الإيقاع. 

وقد اختار الكاتب تيمة العنصرية إطاراً لقصة غاندي المفعمة بالأحداث والتفاصيل، ما جعله يستطيع إيجاد تسلسل سردي منظم. 

وبدأ نضال غاندي بأن حرق التصريح الخاص بالهنود كمستعمَرين، والذي ينص ويرمز في نفس الوقت إلى العنصرية تجاههم، ثم أقام غاندي واحة يعمل كل أفرادها ويعاملون بمساواة على اختلاف أعراقهم ودياناتهم. 

وقد تعين على الكاتب أن يختلق مشاهداً حوارية بين غاندي وعدد من الشخصيات ليبرز من خلالها منطقه والموضوع الرئيسي للسيناريو ألا وهو العنصرية.

والذي استطاع غاندي من خلاله أن يمشـي على الرصيف في مشهد تالي رغم اعتراض بعض من المارة الإنجليز، مستشهداً بآية من الإنجيل -دين الإنجليز، ما يدل على ذكاء غاندي من جهة، وتسامحه وتقبله للآخر من جهة أخرى، حتى أنه أنهى حوار هذا المشهد بعبارة: "هناك متسع لنا جميعاً". 

(اقرأ: دم الغزال وتيمة القهر)


صراع غاندي الداخلي وتطوره

ويسارع السيناريو بتنبيهنا إلى أن غاندي بشر مثلنا، يجتهد ويحاول، يخطئ ويصيب، ويتعلم ويتطور، فيتعرض غاندي في واحته لموقف صعب ضد زوجته التي ترفض تنظيف المراحيض بحجة أنه عمل لأناس معينين، فما يكون من غاندي إلا أن يدفعها بغلظة إلى الخارج عازماً على طردها، لكنه يتدارك خطئه بمساعدتها ويعتذر، ويجد في اللين طريقاً لإقناعها بما كانت ترفض! 

وقد ظهر قبل قليل كيف أن غاندي ضعيف إلى حد ما في مخاطبة الناس شفهياً، فقد استطاع أن يمشي على الرصيف ويفرض نفسه على الإنجليز، ولكن ماذا عن الشعب الذي يعتمد عليه في المقاومة؟ 

لذا استخدم السيناريو ما حدث مع زوجته لتطور قدرات غاندي على التعامل مع شعبه، فنجد غاندي بعدها يخطب في الناس بلباقة وقدرة متميزة على إثارة مشاعرهم وتوجيهيهم نحو الاتجاه الذي حدده للمقاومة، هذا بجانب تحيته للحضور الإنجليز في بداية الخطاب. 

وقد طالب غاندي الناس بالمحيد عن مواجهة ظلم الاستعمار بالعنف والقوة، واقنعهم بالمقاومة السلمية، فقال غاندي: "إني أطالبكم بالقتال، ولكن قتال غضبكم، وبدلاً من توجيه الضربات العنيفة، علينا تلقيها، لنبرز للاحتلال -من خلال تحضرنا وقدرتنا على التحمل- ظلمه وطغيانه". 


فلسفة غاندي اللاعنفية 

إن أسهل الحلول لمواجهة الظلم وأول ما يتبادر لذهن الإنسان هو العنف، الذي يكون نتاج الغضب، ويكون العنف محاولة من الإنسان لنفي الشعور بعدم الاستحقاق الذي يشعر به إثر التعرض للظلم.

ولكن العنف يزيد من الشعور بعدم الاستحقاق لدى المظلوم، ويعزز نظرة الظالم المحتقرة له، بينما الإنسان الواعي الواثق في أهميته واستحقاقه لا يهدده تعرضه للظلم والمهانة، بل يتقبل ضعفه في جلد، ويقاوم ويوجه غضبه في طريق سليم، حتى يحصل على حقه بشكل سليم وعادل لا يظلم معه المعتدي، ولا يؤدي إلى الفوضى.

ولكن حين يتعلق الظلم باستعمار الأرض واستباحة بيوت ونساء سكانه، تضحي مقاومة الغضب غاية في الصعوبة، وهذا ما سعى غاندي إلى المحافظة على تطبيقه طوال رحلته، متغلباً على غضبه هو أولاً، والذي أبرزه مؤلف الفيلم في موقف زوجته، وأكد عليه حين ذكر غاندي في مشهد لاحق أنه كلما كان هناك ظلم فإنه يفكر في القتال، ولكن هناك طرق أخرى لوقف الظلم أفضل من حرق قطار أو قتل جندي إنجليزي. 

وهنا -من ناحية أخرى- تبرز الآلية التي اعتمد عليها مؤلف فيلم غاندي في سرد الأحداث، فالأحداث في الواقع تكون شديدة الترهل، لذا تعين على الكاتب ابتكار تسلسل منطقي لأحداث السيناريو -ليس بالضرورة أن يكون قد حدث بنفس الكيفية والترتيب في الواقع- في إطار موضوع رئيسـي واحد، وهو العنصرية.


لا عنف غاندي والخنوع

ولـمّـا كان من الضروري عدم الذهاب بالظن إلى أن تلقى الضربات ومبدأ اللاعنف يعني الخضوع، قام غاندي بعد مشهد الخطاب بقيادة إضراب عمال مناجم الفحم في جنوب إفريقيا، مواجهاً صاحب العمل الذي احتقر غاندي ولم يهتم بما يقول حول سبب الإضراب وقال له: "إني حذرتك"، فما كان من غاندي إلا أن رد عليه ببساطة: "لقد حذرنا بعضنا البعض!" 

وهنا يبرز غاندي الندية والقوة في ظل السلمية واللاعنف وتلقي الضربات في جلد، قبل أن يتحول غاندي إلى تسديدها.


غاندي البطل في مواجهة خصمه الحقيقي

ولكن وجب قبل تسديد الضربات تحديد اتجاهها، وقد كان غاندي على استعداد مسبق لتوجهه نحو الكادحين الذين يمثلون الهند الحقيقية حسبما وصف، فما إن وصل غاندي إلى الهند عائداً من جنوب إفريقيا حتى لفت انتباهه الفقراء في الشوارع.

كما أنه آثر الارتداء مثل العمال الذين يمثلون الشريحة الأكبر من الشعب على ارتداء الحلل الأنيقة، ولم يهتم غاندي كثيراً بالمحبين والمتملقين، بالإضافة إلى إصراره طوال الفيلم على الركوب في الدرجة الثالثة، فقضيته لم تكن لأجل الركوب في الدرجة الأولى، بل كان يريد أن يكون مواطناً عادياً، ليس منبوذاً وأيضاً ليس مميزاً. 

وظهر غاندي في حفل فخم يحضره الكثير من الأثرياء، منهم السيد جينا ممثل المسلمين في المقاومة ضد الاستعمار، ومن الملفت هنا انخراط غاندي في حوار مع السيد براكاش والذي حدَّث غاندي عن حجته في المقاومة بأنه لو قتل إنجليزي هندياً لمخالفته قوانينه، فإن الهندي من حقه قتل الإنجليزي لفرضه قوانين في غير أرضه، وهو ذات الرجل الذي حرَّض على قتل غاندي. 

ومن الملفت أيضاً في هذا المشهد أن السيد جينا -وهو يمثل شخصية الخصم بالنسبة لغاندي البطل- كان يقف مع براكاش أثناء حديثه مع غاندي ويؤيده، قبل أن ينتزع غاندي من هذا الحوار، في إشارة إلى عدم انتماء غاندي لهؤلاء المتعصبين وهو رغم ذلك عاملهم بلطف وتقبل. 

وقد طلب البروفيسور كوخال الحديث مع غاندي على انفراد، وقال في تأثر إنه حين رآه يرتدي ملابس العمال هذه اطمأن أنه سيموت في سلام، وأضاف أنه ينبغي على غاندي جعل الهند فخورة بنفسها. 

وبعدها قام غاندي -حسب مشورة البروفيسور- بجولة تفقدية للهند وعينيه متعلقة بمشاهد الفقراء والكادحين، وبتتابع لقطات الرحلة يزداد غاندي هماً، حتى يظهر في آخر لقطة وزوجته نائمة مسندة رأسها على كتفه، والجميع من حوله مرهق ونائم، وهو متيقظ بعينين ملئوهما الإعياء، لكن المسئولية أبقتهما مفتوحتين. 

وبذلك استطاع غاندي تحديد اتجاه ضربات المقاومة، وها هو يخطب في الناس عقب انتهاء خطاب السيد جينا شديد العنترية، ويوجه ضربة في وجه جينا نفسه، وكأن غاندي كان يعرف مسبقاً مَن هو الخصم الحقيقي؛ ففي حين كان الجميع يحارب الإنجليز كعدو، أدرك غاندي أن أعضاء الكونجرس نفسهم قد يشكلون خطراً على الهند، ليس لأنهم ينوون الشر، بل لأنهم بشر. 

(اقرأ: الخصم مرآة البطل وليس مجرد شرير)

وأخذ غاندي يقول إن جميعنا مجرد بضعة محامين يدَّعون تمثيل الهند التي تحوي خمسة آلاف قرية وثلاثمائة وخمسون مليون مواطن، ويضيف غاندي وسط صدمة السيد جينا واندهاش أعضاء الكونجرس، إنهم لن يمثلوا الهند الحقيقية ما لم يقفوا على أقدامهم يومياً تحت حرارة الشمس مع الفلاحين، وكذلك لن يستطيعوا تحدي البريطانيين كأمة واحدة. 

وفي سياق متصل ذكر غاندي في مشهد لاحق أن الخطابات العنترية والعنف لا يربي فيهم سوى الإرهاب والقسوة -ما أشرنا إليه مسبقاً بخصوص احترام الذات- وتساءل غاندي مستنكراً إن كان هذا هو نوع القادة الذي تريده المقاومة على رأس بلدها بعد رحيل المستعمر. 

وكان ذلك حين ذهب له بعض من المتحمسين للمقاومة فوجدوه يعيش حياة بسيطة للغاية، وقال إنه يحاول إن يعيش كما يعيش أي هندي بسيط، وفي مشهد لاحق سيتخلى غاندي عن ملابسه ويكتفي بقطعة ملابس وحيدة قائلاً إنه مادام يريد أن يكون واحداً من البسطاء، فلابد أن يعيش مثلهم. 

وفي مشهد آخر يتداول أعضاء المقاومة الحديث حول قوانين الاستعمار التي ستطبق خلال أيام، وتقضي بالحبس الفوري ودون تصريح لمن يحوذ أحد المواد المدرجة في قائمة المواد المخربة، ومنها كتابات غاندي بخاصة! 

وهنا يرفض غاندي الحراك العنيف الذي دعا إليه جينا، قبل أن ينهض ويتناول صينية المشروبات من خادم السيد جينا، قائلاً إنه يريد أن يحرج كل من يريدون معاملتهم كالعبيد، وطرح عليهم رأيه. 

فبعد أن حدد غاندي الاتجاه السليم، ها هو يسدد ضربة قوية جداً للمستعمر، فاقترح أن يجعلوا اليوم الذي اختاره الاستعمار لتطبيق القانون المذكور يوم صيام وصلاة، وبينما أطلق عليه السيد جينا إضراب عام، أصر غاندي على تسميته يوم صيام وصلاة.

وبالتالي يتوقف جميع الناس في الهند عن العمل، فيما يعني توقف الدولة بأكملها، وقد كان تعليق أحد المتحمسين في مشهد سابق على عقلية غاندي أن قال: "أستطيع أن أرى الإنجليز يرتعدون الآن"، وقد حدث.


سلمية غاندي وبطش الاستعمار

وبقدر ما ارتعد الإنجليز بقدر ما طغوا، فوقعت مذبحة أرمستار الشهيرة، والتي قتل فيها وأصيب الآلاف من المتظاهرين الهنود، الذين نددوا باعتقال غاندي إثر توقف الدولة حسبما خطط، وقد اعترف الجنرال قائد المذبحة أنه لو كان بإمكانه استخدام المدرعة ضد المدنيين لفعل، فقط لتلقين الهنود درساً لا ينسى. 

ورغم ما استعر في صدر غاندي من حسرة وإشفاق على ما حدث، كان عليه أن يحيد عن الغضب ويستخدم الوعي، فخاطب الإنجليز في اجتماعهم بأعضاء الكونجرس عقب الواقعة لعمل تسوية، وطالبهم برحيلهم عن البلاد نهائياً، ولم تعد مطالب غاندي مقتصرة على معارضة القوانين والتنديد بالتفرقة.

وقال غاندي ببساطة إن بضعة آلاف من الجنود الإنجليز لن يستطيعوا السيطرة على مئات الملايين من الهنود إذا قرر الأخيرون عدم التعاون، وكانت تلك ضربة غاندي القوية الثانية ضد المستعمر، فقد طالب الشعب بمقاطعة القماش الإنجليزي. 

وارتعد الإنجليز ثانية في مواجهة مقاومة غاندي السلمية، ورغم الحصول على التزام قوي من الشعب بالمقاطعة، إلا أن غاندي قرر وقف الحملة لـمّـا نشبت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، متنازلاً عن هذا الالتزام، فقط لتصحيح اتجاه المقاومة والمحيد عن العنف، قائلاً للسيد جينا الذي استعر غضباً: إن مبدأ العين بالعين ينتهي بأن يعمى العالم كله.

وأبرز السيناريست فكرة اتجاه المقاومة على لسان غاندي حين قيل له في هذا المشهد إن الهند كلها في ثورة، فأجاب في حزن: "نعم، ولكن في أي اتجاه؟ إن كنا سنحصل على حريتنا بالعنف والإرهاب فلا أريد أن اشترك في ذلك". 

وقرر غاندي الإمساك عن الطعام والشراب مطالباً الشعب بوقف العنف، فكان غاندي جديراً بوقوف قاضي المحكمة الإنجليزي احتراماً له عند دخوله، واعترافه بأن غاندي من فئة مختلفة عمن حاكمهم وربما من سيحاكمهم. 

وقد تحداه غاندي وقال إنه مذنب حسب قوانينه، وإن كان يؤمن بها عليه أن يوقع عليه أقصى عقوبة، ورغم أن الأمر يبدو وأنه إفراط في تحدي سلطة الإنجليز، إلا أن غاندي كان لا يزال يطبق مبدأه وهو تقبل الظلم من أجل إبرازه، وإظهار مدى احترامه لنفسه، وعدم خوفه من الظالم.


غاندي والضربة القاضية على المستعمر

وحُبس غاندي لمدة ست سنوات بتهمة إثارة العنف، رغم أن صيامه هو ما أوقفه، ولكنه ما إن خرج غاندي من السجن، حتى عاد يجول وسط الكادحين مؤكداً على نفس اتجاه مقاومته، مطالباً بالاستقلال مسدداً الضربة الثالثة والقاضية للإنجليز، حيث طالب الشعب الهندي بصناعة الملح بأنفسهم ومقاطعة الملح الإنجليزي، وكان الملح هو أهم صناعة تقوم عليها الامبراطورية، وكذلك وأهم ما يلزم الفقراء من أجل الحياة. 

وجدير بالذكر أن اعتمد غاندي في ذلك على أن الملح يأتي من المحيط الهندي في أرضهم، إذن فهو ليس ملك الإنجليز لكي يحتكروا صناعته، وبالتالي فقد سدد غاندي ضربته دون أن يظلم المعتدي، إنه يدافع عن حقه في موارد بلده، مثلما يدافع بشكل عام عن سلطة بلاده التي يستولي عليها المستعمر الإنجليزي بغير حق.


غاندي وخلاصة تجاربه مع الحقيقة

وتزلزلت الإمبراطورية البريطانية وخارت قواها، ومثلما أعقب الضربة الثانية عنفٌ، أعقب الثالثة جنون، ولكنه جاء من اتجاه مختلف، فهذه المرة لم يشتبك الهنود مع الإنجليز، بل اشتبك الهندوسيون مع المسلمين، حيث لم يجد الاستعمار بُداً من الرحيل فزرع الفتنة بين الطرفين، وأثار الخوف في قلوب المسلمين بقيادة السيد جينا من استعباد الهندوس لهم.

وكان قاتل غاندي قد ظهر على استحياء في عدة مشاهد، فكان أحد الهندوسيين الذين هتفوا ضد جينا، وسيظهر أثناء صيام غاندي للمرة الثانية حين هتف أحد المتظاهرين: "الموت لغاندي!" وكان واقفاً بينهم لكن لم يتضح إن كان من هتف.

وحاول غاندي إثناء جينا وتصحيح اتجاه الناس، فطلب أن يكون السيد جينا رئيسَ وزراء الهند بعد الاستقلال، لكن بقية أعضاء الكونجرس رأوا أن هذا من شأنه إثارة الجنون أكثر فأكثر بين الناس، فقالها جينا صريحة لغاندي: "إنه اختيارك، تريد هند مستقلة وباكستان مستقلة أم تريد حرباً أهلية؟" 

ووقع الانقسام ورحل الإنجليز عن الأرض بعد أن تركوا العقول محتلة، ومن الملفت تعبير الفيلم بصرياً عن لحظة الاستقلال في ثلاثة مشاهد: الأول لعلم الهند يرفع، والثاني لعلم باكستان يرفع، ثم الثالث لسارية دون علم يجلس غاندي أسفلها يحيك ثيابه، في إشارة إلى عدم انتماءه لأي منهما. 

وحياكة الملابس تأكيد على فكرة خدمة النفس فهي أساس تهذيبها وتعليمها المسئولية والصبر، ومن ورائه كانت تقف ميرابهن، الإنجليزية التي تبناها، ما يشير إلى قوته وتأثيره الذي طال الشعب الإنجليزي.

ومن الملفت اختفاء السيد جينا تماماً من الفيلم بعد وقوع الانقسام، وقد اندلعت أعمال عنف غير معقولة بين الطرفين أثناء خروج كل منهم من أرض الآخر، وحاول غاندي توجيه الناس للسلام بأن ذهب للإقامة في أحد بيوت المسلمين، وكتب للناس يطالبهم بوقف القتال، حتى اضطر إلى الصيام ثانية، ولم يتوقف عن الصيام حتى بعد خفوت نبضه وتوقف وظائف الكُلى. 

وجاءه زعيم حركة المسلمين، وحضر الكثير من الناس يقسمون له بتوقفهم عن العنف ويسلمونه أسلحتهم، واقتحم أحدهم مرقده في غضب، وألقي عليه رغيف خبز يطلب منه أن يأكله، لأنه لا يريد أن يحمل ذنبه على كتفيه، بجانب ذنب الطفل المسلم الذي قتله. 

ولكن غاندي اقترح عليه طريقة للتكفير عن ذنبه، وهي أن يربي طفلاً آخر، ولكن يحرص أن يكون مسلماً وأن يربيه كمسلم، وبذلك يؤكد على تيمة الفيلم التي أصاب المؤلف في اختيارها كإطار لسيرة غاندي وهي تقبل الآخر ونبذ العنصرية. 

ومن الملفت أن غاندي حين تأكد من توقف القتال، طلب أن يتناول الطعام مع أحد أعضاء المقاومة المسلمين تحديداً، حتى يؤكد على الأخوة والمحبة بين الطرفين، ومن بعدها قرر غاندي أن يسافر إلى باكستان، ليثبت للهندوس والمسلمين أن الأشرار الوحيدين في الدنيا هم الذين يدورون في قلوبنا نحن البشر، وأن هذا ما يجب أن نحاربه.

وكأن تلك العبارة خلاصة تجارب غاندي مع الحقيقة، فقد أطلق غاندي على مذكراته اسم "قصة تجاربي مع الحقيقة" وذكر في مقدمتها إن كل ما أقدم عليه في حياته كان بهدف إدراك الذات، حتى يرى الإله وجهاً لوجه. 

وهذا ما أراد الكاتب إبرازه هنا وما جعل إحساس الـمُشاهد تجاه اغتيال غاندي في النهاية يتغير عنه في البداية، فبطبيعة الحال حتى وإن بدأ الفيلم بمشهد النهاية، لابد وأن تضيف الأحداث معلومة ما، أو شعوراً، يجعل استقبال الـمُشاهد لنفس المشهد مختلفاً. 

وقد آمن الـمُـشاهد مع النهاية بأن غاندي أتم رسالته وقدم للعالم مخرجاً من الجنون، وإن كان غاندي حزيناً رغم كل ما حقق، فلأن المصلحين بطبيعتهم لا يكونوا راضين عما فعلوا أبداً، ويؤمنون دائماً بإمكانية تقديم المزيد، ولعل هذا ما أراد الفيلم إبرازه حين توقف غاندي قبل الخروج في آخر حوار له، وفكر للحظة، ثم نظر إلى أحد المسئولين في الدولة، وحدثه بشأن شيء قد تناقشا فيه يخص البلاد. 

ومات غاندي كما عاش طوال حياته، رجل عادي بدون ثروة أو ممتلكات، لقد كان مسلحاً بالعقل فغمره التواضع، وجعل من الحقائق البسيطة أقوى من الامبراطوريات، وأصبح -على حد وصف وزير الخارجية الأمريكي آنذاك- المتحدث باسم وعي الإنسانية وضميرها. 

ولم يقاوم غاندي الموت، وفي مشهد النهاية -بخلاف مشهد البداية- لم نر غاندي وهو يسقط على الأرض، بل قطع السواد اللقطة، قبل أن يظهر حرق جثته وإلقاء رفاته في المياه، وصوته في الخلفية يردد العبارة التي ذكر في مشهد سابق إنه يستعين بها على إعيائه من أثر الصيام: " كلمّا يئستُ أتذكر أنه عبر التاريخ كان سبيل الحب والسلام دوماً ينتصر، كثيراً ما يكون هناك جبابرة وطغاة وقتلة ولبعض الوقت قد يبدون وكأنهم لا يقهرون، لكنهم في النهاية دائماً ما يهزمون، دائماً".


تم.

أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال