* * * ![]() |
رسم: إسراء خلف الله |
* * *
أخذت زرقة سماء الليل القاتمة تتسلل، ولم تضاء مصابيح الإنارة بعد، ناداه أحد البائعين لمّا تعمد أن ينظر لبضاعته المفروشة على أرض الشارع، ولكن الرجل كان يتجاهل من يناديه، ويغض النظر عمن يلتقي بعينيه، قد ينوي أن يشتري بحق، ولكن ما إن يستشعر إقبالاً ورغبة من البائع حتى تستحيل النية إعراضاً.
* * *
في ذلك الوقت كادت رأس الفتى تسقط في النوم، أهتز جسده فانتزعه من سقطته، وسرت البرودة في أطرافه خوفاً من أن يلاحظ أحد العاملين القدامى فيظن به الكسل والتراخي في العمل، وقد استسلم للفراغ لوقت طويل، بعدما فشل غير مرة في مجاراة الزبائن وما يطلبون من مقاسات، وما يحتاجون من مساعدة واقتراحات. ودخل الرجل إلى المحل، بعدما تجاهل البائع المفترش أمام واجهته، لعله رغب عنهم جميعاً لما وجد لديهم من إلحاح، وآثر بائعي المحلات الجالسين في أماكنهم معززين، ولمّا كان البائع الأقدم منشغلاً مع زبون، وجد الفتى شيئاً يفعله أخيراً فنهض متحمساً.
كان الزبون مع البائع القديم ذا شعر كبير ولحية متناثرة مقززة، وأسنان صفراء متآكلة كأنه كهل رغم شبابه، طرف سرواله من الأسفل منفلت، وحذاؤه تملؤه التجاعيد، ورغم كل ذلك لم يخف عن الجميع أنه غني، وسيدفع بضعة آلاف نظير ما سيشتريه من ملابس. أما الزبون الذي دخل الآن، رغم تشابه حاله مع حال الزبون الأول إلا أنه يبدو فقيراً ولا شك، عينيه ثابتة وفي نفس الوقت غير مركزة على هدف معين، اعترته رهبة ما إن خطا داخل المحل، صدمة حضارية، فارق رهيب بين ظلمة الليل الزرقاء بالخارج ونهار الإضاءة بالداخل، كان يدور برأسه يمنة ويسرة متصنعاً البحث والتقييم. دنا منه الفتى بابتسامة باهتة، لم يخفف من رهبته ما فطن إليه من التقارب الطبقي بينه وبين الزبون، ولم يلاحظ الفتى أن رائحة أنفاسه كريهة نتيجة السكوت الطويل وهجمة النعاس، خاصة وأنه في فترة المراهقة، الراعي الرسمي لبثور الوجه وإفرازات الجسد كريهة الرائحة.
تجاهله الرجل لمّا استشعر اهتمامه، وكان الفتى قد تحفز ليداري إحساسه بعدم الأهمية، وكأن حماسته تسببت في حدوثها في المقام الأول. خاطب الرجل البائع القديم بكلمات مبهمة طالباً المساعدة، ولكن البائع لم يعره أي اهتمام، وتعمد الزبون الأول عدم الالتفات إليه البتة، بدا في ذلك جاداً جداً وكأنه يؤدي واجباً قومياً، فارتعش صوت الرجل وهو يقول:
- عنـــ..ـدك قمــصان ايه؟
واستشعر الفتى ارتباكه، ورغم أن ذلك خليقاً بأن يستثير عطفه، إلا أنه أثار حنقه واستخفافه، ولكنه لم يشأ أن يعامله بقسوة على أية حال، وبقى ينظر إليه، حاول الرجل الإلحاح في طلب البائع فاستدركه الأخير في حسم:
- ثواني مع الاستاذ
وأشار إلى الزبون المنشغل معه، وحينها لم يجد الرجل بداً من أن يعاود النظر إلى الفتى
- عايــــــ.ز قميص لو عن.. وريني قمصان
- بص عندك هنا.. عندنا كل المقاسات والألوان وفيه عروض برضو على كل الألوان
أراد الفتى أن يبذل كل الجهد ليخفف من توتره، ورغم ذلك امتلئ الرجل عجرفةً وراح يتحسس الملابس المعروضة على المانيكان، وكأنما ليختبر جودتها، فبادره الفتى وقد لاحظ لأول مرة رائحة أنفاسه:
- عايز لون ايه؟ أجبلك تقيس!
وكان تردي حال الزبون دافعاً لعدم الاهتمام كثيراً بسوء رائحة فيه، فاستمر في التعامل دون حرج يذكر. وجعل الرجل يفكر كثيراً ويتحسس أحد القمصان المعروضة بيديه، ثم أشار إلى سرواله عدة مرات دون أن يتكلم فسأله الفتى:
- نفس اللون؟
ولكن الرجل نفى قائلاً بصوت مكتوم:
- يليقوا..... على بعض
- حاجة تليق على ده؟! مش عارف ايه اللي يليق عليه
وجعل الفتى يفكر في جدية مفرطة، في حين نظر إليه البائع الأقدم في وجوم لم يلاحظه الفتى، قبل أن يعاود انشغاله مع زبونه. وقرر الفتى أن يأتي له بلون آخر من القميص الذي أشار إليه، وتحرك في حماسة إلى الحجرة الداخلية وهو ممتلئ بالزهو، في حين انتهى البائع الأقدم من زبونه فقال للرجل:
- بـــ 850
لم يسمعه الرجل فكرر البائع عبارته في حسم، وفطن الرجل إلى مراده فغالب وجومه بابتسامة عصبية، وحرك ذراعيه اثناء الكلام متصنعاً الاستهانة:
- اقيسه طيب
- هو مقاسك
وانعقد لسان الرجل أمام اقتحام البائع، وجاء الفتى بالقميص فأنقذه:
- اتفضل ف البروفة هنا
تناول الرجل القميص وكأنه غريق يتشبث بلوح خشبي، ودخل إلى البروفة، في حين التفت الفتى إلى غضب البائع القديم الذي طلب منه أن يتراجع ويترك له هذا الزبون، وفعل الفتى دون فهم.
خرج الرجل بعد لحظات وهو يخلع القميص في عبوس مفرط، وكان له عينين جاحظتين بدتا محمرتين رغم الابتسامة العصبية التي افتر بها وجهه:
- واسع شويـ...ـة
تناول البائع منه القميص دون كلام، وولاه ظهره، وراح الأخير يدير وجهه في بقية الملابس كأنما ليختر قطعة أخرى، في حين تعمد أن يتحرك بقدميه نحو باب الخروج، وزاد من يقينه من أن البائع يريد أن يتخلص منه ما وجده من تراجع الفتى وعدم سؤال البائع عما إذا كان يحتاج لشيء آخر.
بعد أن خرج بلحظات تمنى لو كان قد تكلم وطلب منه شيئاً آخر قبل أن يغادر، وتصور أن البائع كان من الممكن ألا يرد عليه، فتخيل نفسه يلومه على ذلك ويصرخ في وجهه في قوة، وأخذ يخلق المشهد في رأسه بدقة أكثر حتى أن وجهه في بعض الأحيان كان يعبر بغير قصد، يهتف في البائع مشهراً سبابته، ويركز على حدة النبرة.
كرر ذلك غير مرة مضيفاً التفاصيل ومغيراً في الجمل.
* * *
بدأ الرجل تحميل صورة له على الفيسبوك، كان يظهر فيها مرتدياً القميص في مرآة بروفة المحل، استغرق تحميل الصورة قليلاً بسبب كثرة المتراصين أمام شركة الاتصالات من أمثاله لاستخدام الإنترنت. بعد لحظات اكتمل تحميل الصورة، كانت تبدو متعجلة، يبتسم فيها ابتسامة باهتة لا تخلو من بلاهة، ضاق في نفسه بجحوظ عينيه الذي ازداد نتيجة لتكلف الابتسام، وقد كان له وجه صدغ يبدو كأنه مصقول. كان ذلك قبل أن يبدأ في خلع القميص داخل البروفة، وحينها نازعته نفسه بأن يستمني أو يتبول -أيهما أيسر- على جزء من القميص، وكان من قبل قد جرح سيارة بمسمار بعد أن التقط لنفسه صور بجوارها، ولكنه لم يرد أن يؤذي الفتى الذي ساعده.
كانت صورة السيارة قد حصلت على قلب وحيد، أما صورة القميص حصلت الآن على هاها، تقبلها في جلد غريب، بل داخله زهو وكأن الضحك على صورته أفضل لديه من الإعجاب، قبل أن يفاجئ بمجيء بالفتى العامل في المحل، وقف بالقرب منه ليستخدم الإنترنت، وما إن تلاقت عيناهما حتى عرفه الفتى فقال له الرجل:
- القلب تعبان والمخ شغال
تابعه الفتى دون فهم، فأردف:
- زمن الظلم قصير إنما زمن الحق؟
طال صمت الفتى فرد الرجل على نفسه:
- طويل.. وأنا على حق.. ربنا هينصرني مش كده؟
أومأ له الفتى في غير فهم، وانصرف الرجل.
كان ذلك حين اشتمل الليلُ السماءَ بزرقته القاتمة، وحتى الآن لم تضاء مصابيح الشارع!
النهاية.
جميع نصوص هذه المدونة مسجلة لدى إدارة حقوق المؤلف، ويحظر نشرها أو استخدامها دون إذن كتابي صريح من مؤلفها.