قصة إيرنديرا البريئة وجدتها القاسية، هي قصة تقع في حوالي ثمانين صفحة، نشرت ضمن مجموعة قصصية حملت نفس الاسم عام 1972م، للكاتب الكولومبي غابريال جارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل العالمية في الآداب عن مجمل أعماله الأدبية. وفيما يلي قراءة تحليلية للقصة، ارتكازاً على كتاب قراءة الرواية تأليف روجر ب. هينكل.
تدور قصة إيرنديرا البريئة وجدتها القاسية حول صبية تدعى إيرنديرا، تعيش مع جدتها بعد موت والديها، ترغمها الجدة على بيع جسدها من أجل تسديد ثمن منزلهم الذي احترق نتيجة خطأ من إيرنديرا، فماذا ستفعل إيرنديرا البريئة في مواجهة قسوة جدتها خاصة بعد أن يقع أحد الزبائن في حبها ويرغب في إنقاذها؟ وكيف سيكون أثر قسوة جدتها على سلوكها إن تحررت؟
(أقرأ: كيف تكتب لوج لاين؟ شخصية وحدث وسؤالين)
لتجربة أفضل:
طبيعة العلاقة بين عالم إيرنديرا البريئة وعالم الواقع
شأن أعمال غابريال جارسيا ماركيز المختلفة، كانت قصة إيرنديرا البريئة وجدتها القاسية في إطار الواقعية السحرية، التي تتسم بتناول أحداث غرائبية في طيات أحداث واقعية، وبمجرد الانغماس في القراءة يبدأ القارئ في التعامل مع الأحداث العجيبة بألفة واعتيادية، يقول كتاب قراءة الرواية إن الواقع في الرواية ليس المرئي والمعلوم بالنسبة لنا، إنما هو الواقع الخاص بالرواية بغض النظر عن واقعنا نحن، مادام القص هو كل قول يستحضر إلى الذهن عالماً مأخوذاً على محمل حقيقي، في بعديه المادي والمعنوي، ويقع في زمان ومكان محددين، ولكل رواية أو لكل عمل فني عالمه الخاص، الذي يستخدمه صانع العمل ليكشف لنا عن شيء غير مرئي في حياتنا الواقعية. ويمكن قياس مدى التشابه بين واقع الرواية وواقعنا الحياتي، وهي أحد أشكال أو جوانب التحليل الفني النقدي لأي رواية أو عمل فني، فنجد في قصة إيرنديرا البريئة وجدتها القاسية بعض من السمات والجوانب الواقعية، مثل كون الأبطال آدميين وليسوا كائنات متخيلة، كما أن الأحداث على المستوى الأول، أي الخط الرئيسي للأحداث؛ حيث استعباد الجدة لحفيدتها إيرنديرا، ومن ثم احتراق المنزل بخطأ من إيرنديرا، وإرغام الجدة لها على استخدام جسدها لتسديد الدين، وإغراء إيرنديرا أوليسيس عاشقها بقتل الجدة، ثم هرب إيرنديرا وتخليها عن العاشق، كل هذه الأحداث واقعية، ولكن تتخللها الكثير من الأمور غير الواقعية، مثل أن تنزف الجدة دماً أخضر، وتبقى حية بعد تناول سم فئران، وأن تقتلع شعرها بيديها، بصفة عامة كانت شخصية الجدة تحديداً مفعمة بالغرائبية والغموض، من الأمور الغرائبية كذلك سماع أوليسيس نداء إيرنديرا من غرفته، والشخصيات العجيبة التي تظهر في السوق، مثل المرأة التي تحولت إلى عنكبوت.
ولكن غرائبية التفاصيل المتعلقة بالجدة، كان الغرض منها إبراز جبروتها، وتفخيم شخصيتها الطاغية، وبالتالي تكون غرائبية الطرح بمثابة صيغة مبالغة لوصف ونقل المعلومات والصور، وكذلك فإن سماع أوليسيس نداء إيرنديرا مثلاً، يكون الغرض منه إظهار التلاقي الروحي بينهما، وحبه الشديد لها، وكذلك المرأة المتحولة لعنكبوت بسبب خطيئتها، دلالة على تعامل الناس مع الخطيئة والإله والثواب والعقاب بشكل أسطوري غير منطقي، وقاسي في نفس الوقت. إن الأمور التي عبر عنها ماركيز باستخدام خصائص الواقعية السحرية، مثل جبروت الجدة وحب أوليسيس، كان من الممكن التعبير عنها بشكل واقعي من خلال الوصف والبلاغة اللغوية والمبالغة الدرامية، ولكن استخدام الطريقة الغرائبية أكسبها هالة ورهبة أكبر بكثير من تلك التي كانت ستكتسبها بفعل الخصائص الواقعية، بالإضافة إلى الإيجاز في التعبير عن هذه الأمور، الذي لم يكن سيتاح للكاتب إذا استخدم الواقعية، حيث سيتعين عليه الاسترسال في وصف الأشياء، والاستعانة بكثير من الأحداث، حتى يوضح ويرسي ما يريد التعبير عنه من مبالغة.
الأطر الفنية الثقافية الخاصة المقدمة داخل قصة إيرنديرا البريئة وجدتها القاسية
أجاب الفصل الأول من كتاب قراءة الرواية عن سؤال كيف تقرأ الرواية، بأن ندرك الشفرة الخاصة بالدلالة والأطر الفنية وتحليلها، وتحديد ما هو جوهري وما هو زائد، ولابد للقارئ الواعي من استنطاق النص، حيث إن الرواية من الممكن أن تحوي خلطاً متعمداً أو منطقاً فردياً. وبالتالي فإن الحديث عن الأطر الفنية المقدمة في النص، هو حسب رأي كتاب قراءة الرواية العمود الفقري للقراءة، والذي يفرق بين القارئ السطحي الذي يشغل وقته بالقراءة، أو يقرأ فقط لكون القراءة أحد مظاهر الوجاهة، وبين القارئ الناقد الذي يستخلص مما يقرأ الدلالات والمعاني، فيضيف إلى متعة التسلية متعة أعمق وأسمى، ألا وهي متعة الكشف. وحيث إن غرض القراءة الأساسي في رأينا -وفي رأي كتاب قراءة الرواية كذلك- هو إعادة اكتشاف جوانب الحياة، فالرواية تعلمنا أكثر من أي علوم أخرى، بسبب قدرتها على التأثير العاطفي في القارئ. وقد لوحظ أن شخصية إيرنديرا سبق وأن ظهرت في رواية ماركيز الأشهر مئة عام من العزلة، حيث كانت الفتاة التي ضاجعها أورليانو في السوق، وفكر في إنقاذها، ولكنها رحلت مع جدتها قبل أن يحاول. وقد ذُكر في رواية مئة عام من العزلة أن سبب عمل الفتاة هو احتراق منزل جدتها بسببها وسعيها لتسديد الدين. وقد نشرت رواية مئة عام من العزلة في عام 1967م، بينما نشرت مجموعة إيرنديرا القصصية في عام 1972م. وفي رواية مئة عام من العزلة شاء القدر ألا يوفق أورليانو في محاولة إنقاذ إيرنديرا، فربما جاءت قصة إيرنديرا البريئة وجدتها القاسية لتقدم لنا مسار الأحداث في حال إذا ما تمكن أورليانو من مساعدتها، فتقول لنا قصة إيرنديرا أن ذلك كان سيودي به، مثلما حدث لأوليسيس الذي أحبها بصدق، وقتل جدتها ليحررها من سلطتها، وكان جزاؤه أن تركته إيرنديرا غارقاً في دماء الجدة وهربت.
لقد أرشدنا كتاب قراءة الرواية إلى طريقة فهم النص واستقراء بواطنه، فذكر أنه ينبغي على القارئ الناقد تسجيل ملاحظات تؤيد ما يتوقعه، وتسجيل ما يناقض ما يتوقع، وبعد أن يصل إلى تفسير، يتعين عليه مواجهة الملاحظات التي كانت عكس ما توصل إليه من تفسير بعد انتهاء القراءة، فقد يكتشف بُعداً آخراً للتفسير يتضافر مع البعد الأول. ونوه الكتاب على أنه غالباً ما تكون الكلمات أو التعبيرات ذات الطابع الخاص مؤشرات للتفسير، ونضيف إلى ما ورد في الكتاب أنه حتى وإن كان كاتب القصة لم يعمد إلى ما خلصنا إليه من تأويل، فهذا لا يعني أن تأويلنا خاطئ، فبجانب أن لكل إنسان رؤية خاصة، فإنه أحياناً يذهب النص إلى أمور لم يخطط لها الكاتب، وإن كشفناها له يتعجب، وربما يصدِّق على استنتاجنا رغم أنه لم يعمد لذلك، وهذا جزء من سحر الفن.
دون شك يوجد العديد من التأويلات لقصة ماركيز، حيث إنها تترك انطباعاً لدى القارئ بأنها ترمز أو تشير إلى الكثير من المعاني والدلالات، ولكن الفكرة المجردة الكبرى أو الرئيسية لها -في رأينا- هي كيفية التحول من البراءة إلى الغدر، فالجزء الأول من عنوان القصة: إيرنديرا البريئة، والتي انتهى بها المطاف إلى فعل غير برئ بالمرة، والجزء الثاني: جدتها القاسية، وهو ما حوّل إيرنديرا من البراءة إلى الغدر. ومن ناحية أخرى فإن ما تعرضت له إيرنديرا خلال حياتها يجعلها جديرة بتعاطفنا معها حتى وإن غدرت، وهذا جوهر الدراما في رأينا؛ أنها تطلعنا على الجانب الإنساني من الأحداث، فنعرف مبررات أعتى القتلة وأفظع المجرمين، لا لنغفر لهم ما فعلوا من آثام، أو نمتنع عن عقابهم، إنما لندرك أن لكل شيء سبب، وأن كل مجرم بداخله طفل جريح، فيعلمنا ذلك كيف نتعامل مع البشر بشكل أكثر تعاطفاً، وندرك تأثير أفعالنا على نفسيتهم وما يمكن أن تؤدي إليه، فأبسط الأفعال التي نكررها يومياً دون وعي قد تؤدي إلى نتائج كارثية.
كيفية ممارسة الحبكة فاعليتها في قصة إيرنديرا البريئة
تناول كتاب قراءة الرواية البناء الدرامي للرواية والحبكة، والطريقة التي تؤثر في القارئ من خلالها، فتدفعه لاستكمال قراءة الرواية، حيث تستثير مشاعره تجاه الشخصيات، وتثير فضوله تجاه الأحداث، وتجعله يرغب في تتبعها ومعرفة ما ستؤول إليه في النهاية، فيأخذ الكاتب القارئ في رحلة القصة عبر نظام معين يقصده الكاتب، لكي يركز اهتمامه نحو أمور بعينها، ويصل به في النهاية إلى مراد القصة، وفكرتها المجردة. وحدد كتاب قراءة الرواية ثلاثة مفاصل رئيسية للبناء الدرامي للرواية، أولها هو فهم طبيعة العالم الخاص بالرواية، حيث يرسي الكاتب في بداية روايته قواعد عالمها، وليست قواعد عالم الرواية مقترنة بالروايات الرمزية فحسب، بل حتى الروايات الاجتماعية والنفسية يكون لها قواعد وعالم خاص، يتعين على الكاتب إرساءهما منذ البداية، فيعرفنا بطبيعة البيئة التي تدور فيها الرواية، وكذلك طبيعة العلاقات والشخصيات، رواية تراب الماس على سبيل المثال للكاتب أحمد مراد، هي رواية واقعية تدور أحداثها في القاهرة عام 2008، ولكن عالم الرواية الخاص أشبه بالغابة، حيث يأكل القوي الضعيف، وربما قصة ماركيز لها نفس العالم، حيث الجدة الضخمة التي تعمد ماركيز وصفها بطريقة مخيفة، ليظهرها كأنها وحش مفزع، يحكم سيطرته على إيرنديرا الحمل الضعيف.
(اقرأ: تراب الماس.. كيف تكون بطل؟)
والعنصر المفصلي الثاني للبناء الدرامي للرواية، هو استثارة مشاعرنا تجاه الشخصيات، أي يعرفنا الكاتب بمن تدور حوله القصة، وما مشكلته ودوافعه، وما يجعله جديراً بتعاطفنا. ومن ثم العنصر الثالث وهو توقعات القارئ عما ستؤول إليه الأحداث. وفي حكاية إيرنديرا البريئة نقرأ عن فتاة قاصرة، تخدم جدتها شديدة القسوة، ولا تقوى على الاعتراض، أو لا تعرفه من الأساس، وهذا ما يجعلنا نتعاطف معها، ونمقت جدتها. ومع نهاية الفصل الأول -حسب البناء الثلاثي وليس الفصل الأول في القصة- يكون القارئ قد كون فكرة عن القصة وما سيحدث بها، فعند نهاية الفصل الأول لابد أن نكون قد عرفنا كقراء، من البطل، ومن الخصم، وما شكل الصراع، وما يمكن أن تؤول إليه الأحداث، وهو ما يسميه البعض بـ(المقدمة المنطقية/Premise). وفي قصة ماركيز نجد طفلة مسكينة تعمل بائعة للهوى لتسدد ديناً غير مستحق لجدتها، فمن هنا نتوقع أن إيرنديرا البريئة ستصل إلى نقطة انفجار في وجه جدتها القاسية، وقد وقع في حبها أوليسيس أحد الزبائن، فنضيف إلى توقعنا أنه قد يكون المحب هو مساعدها في الثورة على ما تتعرض له من انتهاك. ندرك جيداً قبل مواصلة القراءة أننا أمام قصة مأساوية، ولكننا نأمل ألا يحدث ذلك، بسبب تعاطفنا مع إيرنديرا، ونتخوف عليها من مصير مفزع، خاصة في ظل استمرار القوة والسيطرة الرهيبتين لجدتها بمرور الأحداث، فهي لم تتراجع حتى بعد أن قام الرهبان برعاية إيرنديرا، بل وابتكرت الجدة حيلة لتستعيدها. وفي نفس الوقت فإن حب وتعلق أوليسيس بإيرنديرا وابتسامها التلقائي في حضرته، الذي يدل على بقاء البراءة بداخلها رغم كل ما يحدث، وممارستها الحب معه، وقد تعمد ماركيز قول ممارسة الحب وليس الجنس، هذه الأحداث تعطينا دليلاً أو أملاً في إمكانية عدول النهاية عن المأساوية المحتومة. ومن ناحية أخرى نجد أن إيرنديرا بداخلها نزعة وميل للانتهاك وسعي له، وتتجلى المازوشية بشكل غير قابل للإنكار لحظة اختيار إيرنديرا البريئة العودة مع جدتها القاسية، يوم خرجت من الكنيسة مع زوجها الصوري. وندرك جيداً أن مازوشية إيرنديرا البريئة هذه ليست بيديها، إنما هي نتيجة طبيعية لسنوات من الانتهاك المنظم من قبل جدتها القاسية، ولكن ذلك لا يعني أنها لن تسلم من التشوه، حتى وإن ثارت على الجدة، فما حدث مع إيرنديرا البريئة قد شوهها إلى الأبد.
وتعضد التوقعات بعضها بعضاً، بل تتضافر لنصل في النهاية إلى مصير يلم بكل ما توقعناه، فتثور إيرنديرا على جدتها بالفعل، وتغري المحب أوليسيس -كما توقعنا- بقتل الجدة، ولكنها تتلاعب به وتلومه عند عدم موت الجدة نتيجة المحاولة الأولى، فتدفعه إلى قتلها بالسكين بطريقة وحشية، خليقه بجبروت هذه المرأة القاسية، ثم تستولي إيرنديرا على ذهب جدتها، وتتخلى عن أوليسيس وتهرب وتتركه. وبهذا تكون قصة إيرنديرا البريئة قد شملت كل توقعاتنا، من حيث الثورة والمأساوية ومساعدة المحب، وكذلك تشوه نفس إيرنديرا التي لم تعد بريئة. ولكن يجدر هنا الإشارة إلى أن ماركيز فاجئنا بعض الشيء من خلال آخر جملة في القصة، حيث كتب على لسان الراوي: "لم نعد نسمع عنها، ولم نعثر على أي أثر لتعاستها"، فهل يقودها ما فعلته إلى إنهاء التعاسة؟ أم أن حكايتها انتهت وزالت آثارها بالنسبة للراوي فقط؟!
الراوي ومنظور القص في قصة إيرنديرا البريئة
ذكر كتاب قراءة الرواية في تعريف مفهوم القص -كما أوضحنا سلفاً- أنه العالم المأخوذ على محمل حقيقي، وأضاف أيضاً أن هذا العالم يقدم معكوساً من خلال منظور شخصية أو أكثر، بالإضافة إلى منظور الراوي. ولفت الكتاب إلى الفارق بين الراوي والمنظور، فذكر أن المنظور هو الزاوية التي يقدم عالم الرواية من خلالها، هي مثل العدسات التي يضبطها الكاتب ليرينا الأحداث بطريقة معينة، ومن شانها التأثير في أحاسيسنا وتوجيهنا نحو وجهة بعينها، أما الراوي فهو الشخص الذي يروي القصة، فقد يكون الراوي عليماً، أي يحكي لنا كل الأحداث بشمولية، ويطلعنا على خبايا وتفاصيل كل الشخصيات وكل الخطوط الدرامية، كما هو الحال في رواية مئة عام من العزلة ورواية بين القصرين تأليف نجيب محفوظ، أو يكون راوياً ذاتياً، أي أحد شخصيات الرواية هو ما يحكي لنا الأحداث بصيغة المتكلم، كما هو الحال في قصة الحب فوق هضبة الهرم لنجيب محفوظ، حيث بطل الراوية "علي عبد الستار" يحكي لنا حكايته، وكذلك رواية موسم صيد الغزلان لأحمد مراد. ولكن حتى وإن كان الراوي عليماً، فإن المؤلف في كل عمل يختار منظور معين يتكلم من خلاله، فمثلاً في رواية بين القصرين لنجيب محفوظ نجد أن الراوي عليمٌ، أي يتحدث بموضوعية ظاهرة، ولكن الكاتب يتناول موضوعه من زاوية الهجوم على الذكورية، وذلك هو منظور القص.
(أقرأ: موسم صيد الغزلان.. الأنثى محوراً للقصة)
ويختلف الراوي العليم عن الراوي الذاتي في أن الأخير لا يطلعنا إلا على ما يعرفه، ولا يستطيع أن يصف لنا مشهداً لم يكن موجوداً فيه، كأنه ذات ثانية للمؤلف، ليقود القارئ للاستجابة للنزعات الذاتية، ومجموعة القيم التي ينقلها، وأحياناً ما تكون شخصية أخرى غير البطل هي ما تحكي لنا ما يحدث، كما هو الحال في قصة إيرنديرا البريئة وجدتها القاسية، ولكن ماركيز استخدم أسلوب الراوي الذاتي بطبيعة مغايرة إلى حد ما، فالقارئ حتى قرب نهاية الأحداث يظن أن الراوي عليم، قبل أن يكتشف أنه أحد سكان البلدة يحكي لنا حكاية إيرنديرا من وجهة نظره. بطبيعة الدراما تطلعنا على الجانب الإنساني كما ذكرنا سابقاً، ولكن الراوي الذاتي يزيد من قدرتها على ذلك، حيث ينقل لنا الحكاية بأكملها من وجهة نظر شخصية معينة، لذلك الراوي الذاتي بصفة عامة يجب التعامل مع ما ينقله بقدر من الارتياب. وفي حالة قصة إيرنديرا البريئة وجدتها القاسية، فإن القارئ يبقى في حالة ثقة فيما يروى له ظناً أنه الراوي العليم الموضوعي العالـِم بكل التفاصيل، حتى نكتشف في النهاية أنه راوي ذاتي، فنتحول إلى الشك في كل ما قرأناه. وقد ذكر الراوي أنه رأى إيرنديرا ذات مرة، وعرف فيما بعد بأنها قد هربت وتركت أوليسيس، أي أنه استند على بعض الوقائع الحقيقية التي عرفها يقيناً، تماماً مثلما يفعل أي مؤلف، وبجانب اعتراف الراوي بأسطورة المرأة المتحولة إلى عنكبوت، فهذا يعني أن غرائبية قصة إيرنديرا لم يختلقها الراوي كليةً، إنما هو عالمهم بحق، ويجعلنا نذهب بالظن إلى أن ماركيز أراد بتلك المفاجأة أن يلفت انتباهنا إلى ضرورة الشك فيما يحكى لنا، وقد ذكرنا أن الشك بطبيعته مقترن بالراوي الذاتي، وبالتالي فالكاتب أراد أن يجعل شكنا يزحف أيضاً تجاه الراوي العليم، فعبّر بذلك عن احتمالية عدم مصداقية كل القصص.
التشخيص الفني ومقومات تقديم الشخصيات في قصة إيرنديرا البريئة
ليس كون الرواية اجتماعية أو رمزية يجعلها غير معنية بتعقيدات الشخصيات كالرواية النفسية، بل بحسب كتاب قراءة الرواية فإن غاية الرواية بصفة عامة وباختلاف أنواعها، هو تمثيل الحياة الإنسانية بشكل أعمق وأكثر خصوبة، من خلال زيادة وعينا بطبيعة البشر، ما يجعلنا أكثر رقة في المشاعر، وأكثر قدرة على التواصل. وقد كانت الشخصيات في حكاية إيرنديرا البريئة غير معقدة إلى حد ما، ربما لكونها قصة قصيرة، ما يستلزم بعض التبسيط عنه في الراوية.
كانت شخصية الجدة منذ البداية محاطة بهالة من الرهبة والغموض، وبمرور الأحداث وتتابع هذيانها الليلي، بدأنا نعرف عن ماضيها الكثير، وقد لوحظت بعض اللحظات الحنونة من قبل الجدة، ولكنها كانت تستخدمها لغرض غير نبيل، حق مراد به باطل، فحين خارت قوى إيرنديرا ولم يكن متبقي سوى عشرة جنود في الطابور، رفقت بها جدتها، وطلبت من الجنود الحضور غداً، وكذلك لم تصرخ في إيرنديرا حين أخطأت في شيء ما في المنزل في بداية القصة، ولكن عاملتها برفق وقالت لها فلتنظفيه قبل أن تنامي، أي أن الجدة تستخدم الرفق لتطبق القسوة وتمارس الانتهاك، وهذا جانب إنساني، فالبشر حقيقة لا يؤذي أحدهم الآخر أو يقسو عليه بوجه متجهم طيلة الوقت، لو كان الأشرار يستخدمون التجهم والصراخ على الدوام لما تحير المظلومون أو ترددوا في الثورة، إنما هو تلاعب الأشرار واللحظات التي يتعاملون فيها برفق، هي ما يحير المظلوم ويطيل من عمر الانتهاك، وهذه اللحظات ذاتها من جهة الظالم يقنع بها نفسه أنه ليس بظالم، بل حنون ومتسامح.
وفيما يخص إيرنديرا البريئة، فقد عنى ماركيز في القصة بدواخلها النفسية وتعقيداتها، كما تحدثنا سابقاً، حيث تأثرت إيرنديرا البريئة بما تعرضت له من انتهاك مستمر ومنظم من قبل جدتها، والذي جعل إيرنديرا تلفظ الحرية وتؤثر العودة إلى جدتها. ومن ناحية أخرى فإن طفل إيرنديرا الداخلي البريء، كان يظهر في مشاهد لقاءها بأوليسيس، فتبتسم له إيرنديرا، أو تصرخ دون صوت منادية إياه، ومن ثم نفاذ قوة تحملها للانتهاك، أو بعبارة أدق عدم قدرة إيرنديرا على إنكار ما تتعرض له من جدتها القاسية، بغض النظر عن نبرتها الحنون، وفي نفس الوقت فقد تعلمتْ إيرنديرا من خلال ما مرت به أن تكون متلاعبة، فأقدمت على قتل جدتها القاسية، وأغوت أوليسيس بالتنفيذ غير مرة، قبل أن تغدر به وتهرب.
وأخيراً شخصية أوليسيس العاشق، كانت له بعض الأبعاد النفسية كذلك، مثل خوفه من إظهار الثورة والتمرد أمام الأهل، ومن ثم بزوغ رغبته وتصريحه بها. أما فيما يخص دوره في القصة فإن الوظيفة الأساسية للشخصيات الثانوية هي عكس أوجه أخرى من تيمة القصة، حتى يبرز المعنى، وقد كانت الجدة القاسية مضاد البراءة، لذلك كانت خصم إيرنديرا البريئة، اما أوليسيس فكان وجهاً آخر للبراءة، فقد كان يحب إيرنديرا بحق، ويريد أن ينقذها، ويعتقد أن حبه وما يملك من ماس يكفي لإسعادها، كما كان يعتقد أورليانو، ولكن تسببت براءته في هلاكه. ربما كان أوليسيس يحتاج لتجربة قاسية جداً حتى يتعلم كيف يحجم براءته، ولكن بعض التجارب وبعض البشر بدلاً من أن توعيهم المصاعب تشوههم، مثلما حدث لإيرنديرا التي كانت بريئة، ومن المحتمل أن يحدث مع أوليسيس.
تم.
أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.