
لقد ولدتُ وعشت في الصعيد لفترة ليست بالقصيرة، وكان التعليم في الصعيد يختلف عنه في المدينة إلى حد بعيد، وذلك يرجع لعدة أسباب أهمها عدد السكان الكبير في المدينة، والذي ينتج عنه بطبيعة الحال عدد طلاب أكبر، أذكر أنني رفضت في الصعيد أن أتلقى دروساً خصوصية لدى أفضل المدرسين لأن عدد الطلاب في المجموعة عشرون أو يزيد، وعندما انتقلتُ للمدينة وجدت نفسي وسط أعداد مهولة من الطلاب، ما أثار ارتباكي، فقد اعتدتُ أن يعرفنا المدرس جميعاً اسماً اسماً، وكان الاهتمام مهماً بالنسبة إليّ.
وقد كان التعليم في مدارس المدينة شبه غائباً كلياً، لم نكن نتلقى أي شيء مفيد في المدرسة، على عكس الصعيد، فهناك لم نكن في حاجة إلى دروس خصوصية في كل المواد، كانت المدرسة تمنحنا تعليماً جيداً جداً، بينما في المدينة لم نكن نذهب للمدرسة إلا من أجل الحضور، حتى لا يؤدي غيابنا المستمر إلى الفصل.
لقد انتقلت للمدينة مع بداية المرحلة الثانوية، وبسبب طبيعة الدراسة التي ذكرتها ساء مستواي الدراسة أيما سوء، ولكن كان لدي من المهارة -بفضل الله- ما مكنني من النجاح في السنتين الأولتين، أما السنة الثالثة فكانت سنة مصيرية بالنسبة لي، وللجميع، طوال حياتي كان أبي يناديني بـ الدكتور، ولم أفكر في أن أكون شيئاً آخر غير ذلك، ورغم صعوبات التعلم في المدينة، إلا أنني -بفضل الله- استطعت أن أبذل مجهوداً خرافياً في دراسة الصف الثالث الثانوي، صحيح أنني سقطتُ وكدتُ أخسر كل شيء مع نهاية العام، ولكن لطف الله ورحمته حالا دون ذلك، ومجهودي الذي بذلت في البداية شفع لي عنده، فحصلت على مجموع كبير، وفرح أهلي.
ولكن درجاتي بدلاً من أن تدفعني نحو المصير الذي قرروه لي، دفعني نحو ذاتي، فقد شعرت ربما لأول مرة بثقة في نفسي، وبحبٍ لها، فتساءلت بصدق ماذا أريد أنا أن أكون؟ وليس ماذا يريدونني أن أكون؟ فيما مضى راودتني أحلام ورغبات فنية غير مرة، مع نهاية المرحلة الابتدائية كنت معجباً بالشعر وبهشام الجخ بصفة خاصة، وحاولت أن أنظم قصيدة، وفي الإعدادية حاولت أن أغني مثل حمزة نمرة، وفي بداية الثانوية حاولت أن أرسم، وأيضاً حلمت بأن أكون ممثلاً مثل يوسف الشريف. أما هذه المرة فقد دفعت في الاتجاه الصحيح، اتجاه الكتابة، والذي اكتشفت فيما بعد أنه يجمع كل هذه الاهتمامات، فلكي تكون كاتباً جيداً -خاصة كاتب سيناريو- لا بد وأن يكون لديك معرفة جيدة بالفنون الأخرى، كالموسيقى، والتمثيل، والفن التشكيلي، وغيرهم.
ما من يوم مر عليّ في معهد السينما إلا وكان يتوكد لدي الإحساس بأنني أسير في الطريق الصحيح، وخاصة فيما يتعلق بطريقة التعليم وجودته، فقد كان عدد الطلاب صغير جداً مقارنة بالكليات الأخرى، ما جعل الأساتذة يتواصلون معنا أكثر ويعرفوننا جيداً، وهذا ما كنت أنشده. وفيما يتعلق بجودة التعليم فقد كانت كل مادة ندرسها تضيف لنا شيئاً جديداً، وكل تكليف نكلف به يفتح لنا أفقاً أبعد. ولشد ما كنت أتعجب من زملائي الذين يتعاملون مع التكليفات مثلما يتعامل الطلاب في الكليات التقليدية، يتعاملون معها على أنها مجرد تكليف نؤديه كي ننجح، ولا يحاولون أن يتعلموا منه، وما كان يحزنني أكثر أن هؤلاء يحصلون على درجات أعلى من درجاتي، لأنهم ينقلون الأوراق البحثية من على الإنترنت، بينما كنت أكتب كل الأوراق بنفسي، فكان الناتج أن أوراقهم والمعلومات التي تحويها أكثر منها في أوراقي، ولكن كان عزائي أنني أضيف شيئاً جديداً إلى خلفيتي الثقافية، وأثقل موهبتي أكثر وأكثر مع كل تكليف، ومن تجربتي مع التعليم وخاصة في معهد السينما عرفت معنى التعليم بحق، فإذا لم يضف التعليم الذي تتلقاه شيئاً إلى حياتك اليومية والعملية، ولم يجعل منك إنساناً أفضل، فلا خير في التعليم، هذا هو الهدف من التعليم كما عرفته.
تم.