صوت داخلي - قصة قصيرة - الفصل الثالث

* * *
صوت داخلي - قصة قصيرة

لتجربة أفضل:

* * *

في الرابعة من عمري كنت أشك ألا شيء حقيقي، أتصور أن جميع الناس متآمرون عليّ، يمثلون أمامي كل ما يحدث، وما إن أغادر البيت مثلاً حتى يظهروا الكاميرات والميكروفونات، ويتواصلون مع الأشخاص الذين سأقابلهم بالخارج لتلقينهم ما يفعلون معي. كنت أشك ألا وجود للجنة أو النار أو الحساب أو الإله، وكل ما أتلقاه من الناس مسرحية متفق عليها. لم أعرف حتى اليوم سبباً لمثل هذه الشكوك، ولكني أذكر أن في هذه العمر ظهر التلعثم أول ما ظهر، ولكنه سرعان ما ضعف واختفى، لأني لم أكن كبيراً بما يكفي حتى أقلق منه وأنشغل بالتفكير فيه، فذلك ما يجعله يقوى ويشتد. وربما اختفى لأن بابا أخذني معه حينها في أحد السفريات إلى الإسكندرية وقمنا بزيارة مسجد أبي العباس المرسي وصلينا هناك، واشتري لي قنينة حبة البركة. كانت تلك طريقته في معالجة الأمر، أما الآن فبات يتجاهل، مثلما يتجاهل تصرفات سيف تجاهي. في عرف المصريين الأخ الأكبر يتجاهلون أغلب تصرفاته، وخاصة المتعلقة بإخوته الأصغر، فقط لأنه الأكبر، ولو فعلت بالمثل مع محمود أو إسلام سيسمح بابا لي، ولو كان لدينا إخوة بنات كان سيتجاهل تصرفات الذكور تجاهها. 

ذات مرة رفعت سكيناً على سيف، لمّا جعل يسخر مني إلى حد يكاد يدفع للجنون، كان يسخر من مظهري، من كلامي، من كتاباتي، أو محاولاتي الكتابة، ولما كنت أصرخ عليه كان يضحك ويقلد تعبيرات وجهي مستهزئاً، لم أستوعب أبداً كيف يضحك إنسان على إنسان يصرخ ويبكي. وكنت دائماً ما ألقى اللوم من بابا حين أصرخ عليه أو أحاول ضربه، فأتحول من مجني عليه إلى جاني لأنني لم أصبر على ما يفعل، ولمّا يئست تعلمت التجاهل، وفوجئت بأن بابا يثني على تجاهلي ويطالب محمود وإسلام بأن يتصرفا مثلي قائلاً: "خلي شخصيتكم محترمة زي علاء.. أخوك الكبير يقولك كلمة فوتها عادي.. أعمل نفسك مسامعش.. أومال لما تخش الجيش وتسمع أوامر من الظباط ولا شتيمة بالأب والأم؟ ولا لو دخلت وقعد معاك عيل بارد يغلس عليك هتصرخله؟ لا لازم تبقى بارد وتسيب اللي يتكلم يتكلم.. واتريق أنت على نفسك قبل ما حد يتريق عليك.. من وأنتوا صغيرين وأنا اتريق عليكم وأطلع على ده اسم وده اسم.. عشان يبقى عندكم شخصية وميهمكمش كلام حد".

جوايا اتنين وأنا التالت

والتالت دايماً ساكت

سلِّم بطل يتكلم

ولا بيحس ولا بيتألم

غادر سيف المنزل، فقرر بابا أن يترك لمحمود أموالاً ليخرج، قبل أن يمد رأسه داخل غرفتي المظلمة ويسأل:

- لوليتا عايز حاجة قبل ما أمشي؟

ولم ينتظر إجابتي فأردف:

- متشيلش هم بكره هجيبلك الفلوس.. سبحان الله واخد الأوضة المدفونة وواصلها نور.. عايزك تطول بالك مع أخوك

دلف من الباب واقترب مني مسترسلاً:

- أخوك الكبير هنعملوله ايه؟ يقولك كلمة طنش عادي.. خليك أنت الأحسن.. أصل أنت فاكر كل الناس محترمة زيك.. لكن محمود هياخد الفلوس يصيع بيها برة.. ماشي؟ مش عايزك تشيل هم بكره أنا هتصرفلك ف الفلوس بأي طريقة.. هما كام؟

- مية وخمسين

- ماشي ولا يهمك.. انت عارف انا واثق فيك ازاي

أشفقت عليه وغمرني الشعور بالذنب، غادر الغرفة، وما هي إلا ثوان حتى نهضتُ ولحقت به قبل أن يرحل، وكان واقف أمام الباب يتحدث إلى ماما وإسلام ومحمود الجالسين في الصالة:

- بصوا إن حد خبط..

بتر كلامه لما رآني وأعطاني كل اهتمامه، ما جعل الكلام ينحبس بين فكي للحظات:

- .... امتى.. هتيجي؟

- بكره هجيبلك الفلوس

- في.. معاد تاني.. ألحقه.. أروح في معاد تاني

- طيب ماشي إن شاء الله (ثم وجه كلامه للجميع) كنت هقولكم ايه؟ لو حد خبط محدش يفتح.. أي ييجي مننا يرن الجرس وبعدين يخبط.. غير كده متفتحوش لحد.. مناقصنش يقولك احنا هنمسحوا السلم هاتوا خمسة جنيه.. لا خلي امك تطلع معانا.. معايزنش نختلطوا بحد.. زي ما كنا ف حالنا ف البلد خلينا ف حالنا هنا

- ماشي مع السلامة

قالتها ماما بشيء من التهكم، حاولتُ تصحيح الموقف بأن أظهرت اهتماماً شديداً بما يقول، ورددت عليه: 

- حاضر

- متشيلش هم حاجة انا بكره هاجي بدري على كد ما قدر عشان تلحق درسك.. انا عارفك ملتزم ومحترم

ابتسمتُ له بسعادة وامتنان، رغم ما داخلني من قلق وشعور بالذنب. أغلقت الباب خلفه ووقفت للحظات أتفكر فيما أقدمت على فعله، الآن سأسجل اسمي غداً، سأحضر في موعد المتفوقين، سأقابل علي وحبيبة. 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال