بعدما قررت أن أكون كاتباً، كان أول عمل أبدأ في كتابته رواية عن فتاة مضطربة نفسياً، اخترت بالصدفة اضطراب الشخصية الحدية، وبحثت عن كتب علمية عن المرض، وإذا بي افاجئ بأنني أعاني أعراضه! كثير من الناس يشخصون أنفسهم تشخيصاً خاطئاً، ولكني كنت محظوظاً وواعياً بذاتي للحد الذي وفقني لأن أشخص مرضي تشخيصاً صحيحاً. فبجانب التلعثم الذي أعاني منه منذ بداية المرحلة الإعدادية، اكتشفت أنني أعاني من اضطراب الشخصية الحدية، وهو ببساطة تخبط وتأرجح بين كثير من المشاعر والأفكار في وقت قصير، في نصف ساعة فقط يمكن أن أحزن وأبكي ثم أفرح ثم أقدم على الانتحار، كل فكرة صغيرة قادرة على دفعي في اتجاه أو آخر بمنتهى السهولة.
وبدأت رحلتي ف العلاج..
ترددت على عدد من الأطباء، في البداية زرت طبيباً متخصصاً في التخاطب، ولكني وجدته يعلمني كيف اتفادى التأتأة، ويغض الطرف عما أعانيه من مشاكل نفسية تسبب التأتأة، فشعرت أنه لا يملك ما يمكن أن يساعدني به، ما دفعني إلى زيارة أطباء نفسيين. كان أولهم طبيباً شاباً مدة الجلسة عنده خمسة عشر دقيقة! في البداية ظننت أن ذلك يقتصر على أول جلسة فقط، لأنه يريد في البداية أن يتعرف عليّ ليس إلا، ولكني فوجئت بأن هذا هي مدة كل الجلسات، ومرت حوالي سنة قبل أن أزور طبيباً آخر، اخبرته بمرضي، ولم يكن لديه ما يقدمه لي أيضاً، وصف لي دواءً مضاداً للاكتئاب، وآخر مضاداً للهوس، ولولا أن أخبرته أنني احتاج إلى علاج سلوكي ربما لم يكن ليوصلني بمعالجة نفسية متخصصة.
وظهرت صاحبة الأثر..
كان انطباعي الأول عنها أنها من الأمهات المتحفظين، وظننت أنني لو اخبرتها عما أعانيه ستوبخني وتطلق الأحكام عليّ بلا هوادة، ولكن لما بدأت الجلسة -وقد كنا نقيمها في طرقة مساحة عمل نظراً لأنني لم أكن قادراً على دفع ثمن إقامة الجلسة في قاعة أو غرفة خاصة، ولأنها لم ترد أن تطلب سعراً مرتفعاً تقديراً لظروفي- لما بدأت الجلسة سألتني بعض الأسئلة منها: كيف هي علاقتك بأمك؟ فقلت بعد قليل من التردد إنني كنت أكره أمي في طفولتي، وادعو الله أن يميتها. وقد توقعت رداً حاداً ووجهاً متجهم، ولكنها قالت لي إن المشاعر لا حكم عليها، فهي من حقي تماماً، ولابد ألا اشعر بالذنب تجاهها، ومن هنا وجدت الثقة طريقها فيما بيننا.
ورغم انتظامي في العلاج، ورغم جنوحي نحو التعافي وتحليّ بالإيجابية، إلا أنني أقدمت على الانتحار غير مرة، ولكني حين دنوتُ من الموت لم أقو على التنفيذ، وانتصرت رغبتي في الحياة، واكتشفت بسبب محاولات الانتحار أنني في حاجة إلى علاج دوائي بجانب العلاج السلوكي، وكنت قد توقفت عن تناول الدواء الذي وصفه لي الطبيب في بداية الرحلة بعد أيام معدودة، لمّا لم يحدث الأثر المرتجى. ولكن ما حدث أنني بعد وقت طويل من العلاج السلوكي تطورت حالتي من اضطراب شخصية حدية إلى شبه اضطراب وجداني ثنائي القطب، فبات الاكتئاب يجيء بشكل دوري ويستمر لعدة أيام، فيعيق قدرتي على التواصل، ويعجز لساني عن التكلم، ويستدعي الرغبة في الانتحار ويقويها، وكانت حالتي المادية قد تحسنت إلى حد ما فاستطعت أن أزور طبيباً نفسياً، ووصف لي دواءً مشابه لما وصفه لي الطبيب السابق.
وعرفت معنى الحياة كما لم أعرفها من قبل..
لمدة ليست بالقصيرة كنت أظن أن نوبات الاكتئاب قدرٌ لا يمكن الفرار منه، ولكن الدواء جعلني مستقراً، وطبيعياً! وهذه الطبيعية لم اختبرها منذ زمن، رغم أنني لم أكن أشعر بالدونية بسبب مرضي، مثلما كان يفعل الكثير من المصابين باضطراب الشخصية الحدية، والمصابين باضطراب التلعثم، فقد كنت عضواً في عدة مجموعات على الفيس بوك تجمعني مع المصابين بمرضيّ، وما كنت أجد منهم إلا طاقة سلبية، وشعوراً عميقاً بالدونية، وخاصة لدى المصابين باضطراب الشخصية الحدية، فكثيراً ما كنت أقرأ منشورات يتساءل أصحابها هل يمكن للشخص الحدي أن يعمل؟ هل يمكن للشخص الحدي أن يتزوج؟ وكنت أعجب من ذلك أيما عجب، خاصة وأنني بعدما انتظمتُ في العلاج لفترة وتحسنت حالتي، توقفت عن تصنيف نفسي كشخص حدي أو متلعثم، ورأيت ببساطة أنني مجرد شخص لديه صعوبة في التواصل والتعامل مع المواقف والأفكار والمشاعر.
هذه رحلتي مع العلاج النفسي، وقد تمخضت عن نجاح كبير، واكتشفتُ خلالها قوة لم أظن أني أملكها..