السينما عصارة فلسفية.. شرح طبيعة العلاقة بين الفلسفة والسينما

السينما والفلسفة
* * *

الفلسفة تعريفها ونشأتها

الفلسفة كلمة مشتقة من لفظ يوناني مكون من مقطعين: فيلو - صوفيا، وتعني محبة الحكمة، وتعرف على أنها استخدام العقل (بعيداً عن العاطفة) في تتبع وإدراك الموجودات، للوصول إلى أسباب وجودها، وتحديد نقاط قوتها وضعفها، في نمط تفكير منظم ومتدرج، أي ليس مرتجلاً، وكل سؤال فيه يقود إلى آخر، حيث إن كل إجابة تصبح سؤالاً جديداً. ولأن الفلسفة تخضع كل شيء للنقد، فهي ترفض التسليم بأي معتقد أو عادة أو تقليد دون وجود أدلة على صحته. 

مثال: عند البحث مثلاً في مسألة الحرية، سنبدأ بصياغة تعريف لها، ويقودنا التعريف إلى تحديد شروط تواجدها، فتقودنا الشروط إلى التساؤل عن الموجود منها وغير الموجود، فنتساءل كيف يمكن تحقيق غير الموجود؟ وقد نكتشف أن المطالبين بالحرية قد يكونوا أحد عوائق تحقيقها فنتساءل عن الأسباب، ومن ثم نبحث في كيفية التغلب عليها، وهكذا. ليس للفلسفة أن تسلم بعدم إمكانية الوصول للحرية لأن المجتمع جاهل وحسب، الفلسفة ستخوض في أسباب الجهل وإمكانية التغلب عليه، وكل ما يتعلق بالموضوع في شكل متسلسل.

نشأت الفلسفة في الحضارات الشرقية القديمة مثل مصر وفارس والهند، ثم زحفت على اليونان، فكان للفلاسفة اليونانيين الفضل في تحرير الفكر الفلسفي من الأساطير والديانات الشعبية السائدة، ومحاولة تنظيمه على أسس عقلية، حيث جعلوا من المعرفة هدفاً للحياة. ويعتبر فيثاغورس هو أول من استخدم لفظ فلسفة حيث نُسِب إليه قول: "لست حكيما فإن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، ما أنا إلا فيلسوف"، أي محباً للحكمة.

(اقرأ: مقدمة في الفلسفة.. ما يحتاج الكاتب معرفته)


الإدراك الحسي والإدراك العقلي

الإدراك الحسي هو الإدراك الناتج عن استجابة حواس الإنسان؛ السمع والبصر والشم وغيرها، بما حوله من مثيرات ومنبهات خارجية، ومن ثم ترجمتها إلى مدركات ومفاهيم، عن طريق مقارنتها بما لدى الفرد من مخزون من الخبرات السابقة.

أما الإدراك العقلي فهو الإدراك الباطني، أي الطريقة التي يفهم بها الإنسان المسلمات والمفاهيم العامة المجردة، بعيداً عن المفاهيم المحسوسة، المرتبطة بالمثيرات الخارجية.  


طبيعة التلقي في السينما وارتباطها بالإدراك الحسي وتؤثر في الإدراك العقلي

ارتبطت نظريات السينما بالفلسفة أساساً، فلمّا ظهرت السينما كفن جديد وراح المنظرون والنقاد يحاولون فهم طبيعتها، استعانوا بالعقل في فهم وتحليل عناصرها، ودراسة كيفية تأثيرها على المتلقي، وقد كان معظم المنظرون إما فلاسفة وإما متأثرين بالفلاسفة، مثل المنظر السينمائي والفيلسوف هوجو مونستربرج. وكان أول ما سعى المنظرون لفهمه هو طبيعة التلقي، ويتضح اتصال فهمهم لها بمسألة الإدراك الحسي والإدراك العقلي؛ حيث رأى هوجو مونستربرج أن كل تجربة هي علاقة بين كل وجزء، أي بين المعروض على الشاشة وخلفية المشاهد العقلية عما يراه، فيستقبل المتلقي ما يراه وما يسمعه من مثيرات حسية، ومن خلال مقارنتها بما لديه من خبرات سابقة يكون الأفكار. 

(اقرأ: سينما العقل.. نظرية هوجو مونستربرج)

وفيما يخص الإدراك العقلي، فإن ما يكونه المتلقي من خلال متابعته الأفلام والمسلسلات من رؤى أو أفكار مجردة للموضوعات، أو التغيير الذي يحدث في نفسه وعقله نتيجة مشاهدة الفيلم، كل ذلك يتعلق بالإدراك العقلي البعيد عن المثيرات الخارجية المحسوسة، فالسينما قادرة على تغيير المفاهيم العامة المجردة المرتبطة بالإدراك العقلي، من خلال التأثير العميق التي تصنعه في عقول المشاهدين، فمثلاً شيوع البلطجة والعنف واضطهاد المرأة في مجتمعنا المصري المسئول الأكبر عنه هو ما تم تصديره من خلال السينما والتلفزيون من أعمال ترسخ هذه المعتقدات المشوهة. 


السينما تشبه عملية التفلسف.. وتختلف عنها في اعتمادها على العاطفة

كما أن السينما في تركيبها تشبه عملية التفلسف؛ حيث ينبغي على كل مشهد في السينما وكل تتابع مشاهد أن يجيب على تساؤل طرحه المشهد أو التتابع الذي سبقه، ويطرح المشهد/التتابع بدوره سؤالاً يجيب عليه ما بعده، فالسينما ما هي إلا تسجيل منظم لأحداث معينة، بغرض توصيل أفكار معينة، يفضي تسلسلها في النهاية إلى فكرة مجردة كبرى، أو رؤية معينة لموضوع ما، وكذلك الفلسفة هي أسلوب تفكير منظم ومتدرج، يقود كل جزء فيه إلى الآخر في شكل تصاعدي متسلسل. 

ولكن السينما تختلف عن الفلسفة في اعتماد السينما بالأساس على المشاعر، بينما الفلسفة تعمد إلى تنحية المشاعر جانباً والتركيز على العقل فحسب. ولكن يمكن القول أن السينما هي طرح عاطفي لموضوع عقلاني، أي أن صانع الفيلم يتوصل إلى فكرة أو رؤية لموضوع ما بواسطة تفكير منطقي فلسفي، ثم يتناولها بواسطة إطار درامي من أحداث تؤثر في المشاهد وجدانياً، ليثبت به صانع الفيلم فكرته الفلسفية، وهذه الطريقة تكون أقوى وأكثر تأثيراً من محاولة الإقناع غير الدرامي أو غير العاطفي. وهذا ما يجعل السينما سلاحاً غاية في الخطورة، حيث إن استخدامها بغير وعي أو بغير نبل، قد يفضي إلى نتائج مفزعة، مثل التي تحدثنا عنها فيما سبق.


تأثر السينما بمسرح بريخت الملحمي وعلاقة ذلك بالفلسفة

ويجدر بنا هنا الإشارة إلى توجه سينمائي عمد إلى تنحية العاطفة والاعتماد على العقل وحده، ألا وهي الأفلام المتأثرة بمسرح بريخت الملحمي. وتتلخص تجربة بريخت في عمده إلى أن يكون المشاهد في حالة من الوعي واليقظة أثناء متابعة المسرحية، لا أن يكون مندمجاً فيها شعورياً متعاطفاً مع شخصياتها. وأن تتمثل متعة المشاهد في تلك اللذة النابعة من التفكير فيما يتابعه المشاهد بذهنه اليقظ، بدلاً من تلك التي تغيبه عن طريق الإيهام بحقيقية ما يراه. وقد قام بريخت بالتعديل على الأسس الفنية لعناصر المسرح، ومن ثم تأثر به السينمائيون فتعمدوا تفكيك السيناريو وجعل أحداثه غير متسلسلة، حتى تسبب الانفصال الشعوري لدى المشاهد، وأن يوجد في الفيلم نوعاً من التعليق الخارجي يشرح لنا بعض الأمور التي من المفترض أن ترى ولا تقال، وأن تكون الشخصيات مسطحة إلى حد كبير، دونما الاستغراق في دواخلها وتعقيداتها النفسية، كما تفصح الشخصيات عن رغباتها وما تمثله في الفيلم بمنتهى الوضوح والمباشرة، وتخلى هؤلاء الصناع عن الإيقاع الهرمي المتنامي واعتمدوا على إيقاع آخر تصادمي. 

(اقرأ: حكاية الأصل والصورة.. تدمير الجدار الرابع)

وهناك عدد من الأفلام المصرية التي تأثرت بمسرح بريخت بدرجات متفاوتة، بحسب هدف كل فيلم منهم، مثل فيلم حكاية الأصل والصورة إخراج مدكور ثابت، الذي يعرض لنا قضية مقتل شابة من خلال عدة أوجه غير متسلسلة، ويتركنا دون فكرة مجردة بعينها. وفيلم صراع الأبطال الذي استخدم فيه المخرج توفيق صالح عنصر ثبات الشخصيات وعدم تعقيدها نفسياً، ليوجهنا نحو فكرة التمسك بالمثل العليا المتمثلة في تفاني البطل -الطبيب شكري- في عمله، ومحاربته المرض دون أدنى اهتمام بعواطفه ورغباته الإنسانية الخاصة. وكذلك فيلم مواطن ومخبر وحرامي إخراج داوود عبد السيد، الذي مزج فيه بين العناصر البريختية والواقعية السحرية، ليقدم لنا تجربة تقتضي حضور عقلي وانفصال شعوري لفهمها.

(اقرأ: مواطن ومخبر وحرامي.. فيلم ملحمي جداً)


السينما عصارة فلسفية

وقد تحول الغرض من السينما ابتداءً بنظرية هوجو مونستربرج على أنه الهرب من توتر وجنون العالم، والانشغال بقطعة منظمة مستقاه من الواقع، ننشغل بها لأجل ذاتها لا لأننا نريد أن نفهمها أو نستخدمها، ومروراً برؤية المنظر والمخرج الروسي سيرجي أيزنشتاين خلال ونظرية التحييد التي ابتكرها، وهي قائمة على الأسلوبية المفرطة في استخدام عناصر السينما، ووصولاً إلى رؤية أندريه بازان للغرض من فن السينما، على أنها تعرفنا بالواقع التجريبي غير المتاح بطريقة أخرى، أي اكتشاف الدنيا عن طريق السينما. 

(اقرأ: السينما الواقعية.. الموجة الفرنسية بقيادة بازان)

بذلك تكون السينما قد خاضت في مناحي الفلسفة المختلفة التي ذكرناها، فهي عملية تفكير منظمة، تخاطب الإدراك الحسي والعقلي، من خلال منتج فني جمالي، يساعد المتلقي في فهم نفسه والتعامل مع الحياة على نحو أفضل، فتصبح السينما بالتالي -إن جاز القول- وسيط قائم على الفلسفة، سواءً كانت سينما تقليدية تعتمد على العواطف في تناول الأفكار، أو بريختية تقوم على إبطال التعاطف وتحفيز إعمال العقل وحده.

تم.
اكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال