نص صفحة - قصة قصيرة (حزينة)

* * *

نص صفحة - قصة قصيرة
تصوير: إسراء خلف الله

* * *

يراودني إحساس مختلف تجاه القراءة أحياناً، إحساس مخيف، أخاف ألا أستطيع التركيز فيها! أفكر كيف يقوم العقل بالتركيز على ما يقرأ؟ كيف يركز ويقرأ ويستوعب؟ كيف أمرر عيني على الكلمات فأفهم معناها، ثم أتخيل ما فهمت، ثم أشعر بشيء تجاهه؟ أحياناً أجد صعوبة في استيعاب الكيفية، وأشعر بغضب لأنني منشغل بهذه الأمور دون التركيز على ما اقرأ.

يا الله لقد جلستْ فتاة بجواري!

هل يبدو عليّ الانتباه إليها؟ أم يبدو عليّ التظاهر بعدم الانتباه إليها؟ هل ستلتفتْ للرواية بين يدي ويصادف أن تكون روايتها المفضلة؟ هل ستسألني كيف تحصل كتاب من المكتبة؟ وإن سألتْ هل ستواتيني الشجاعة للشرح لها دون عبوس يضجرها أو اقتضاب في الحديث يحرجها؟ أو دون متطفل يتولى الشرح لها رغم أنها سألتني أنا!! يا الله هل يضيع الوقت في التفكير في هذه الهواجس دونما القراءة؟ هل سأستنزف الطاقة في التركيز في مثل هذه الأفكار؟ وحينها سأضطر للانصراف عن المكان دون إنجاز يذكر، الناس تقضي في المكتبة ساعات وأنا أنصرف بعد ربع ساعة! هل خرجتُ من منزلي وركبت مواصلات ودخلت مكتبة الإسكندرية وبحثت عن كتاب بين رفوفها الهائلة حتى أقرأ فيه نصف صفحة؟؟ كيف سأبدو في نظر الموظف إذا أعدتُ الكتاب بهذه السرعة؟ ولقد سئمت أن أقول لنفسي إنها أول جلسة لي مع هذا الكتاب وحين أنتظم في المجيء يوماً بعد آخر سأنتهي منه، نعم ستكون لذة عظيمة إن واظبتُ على المجيء يومياً لقراءة نفس الكتاب حتى أنهيه، ولكن من أين لي بهذا الانتظام؟ إنه لمن الممتع التفكير فيه والتخطيط له، ولكن من شبه المستحيل تنفيذه، سيحدث ما يحدث دوماً، سأعجز عن النوم مبكراً وسأستيقظ وأشرب قهوة وأتحرك رغم الانهاك الجسدي، وأقول إنه طبيعي في أول محاولة لضبط النوم وتثبيت الروتين، ولكني لن أستطيع حينها أن أركز في القراءة لأني لم أنم جيداً، وربما أقرر أن أغادر المكتبة لأشتري أقراصاً للصداع ثم أعود لاستكمال القراءة، ولكن ما إن أعود سأشعر برغبة في دخول الحمام، وسيكون فقط لمجرد خوفي من الرغبة في دخوله الآن، بعدما عدت ومررت من بوابة المكتبة واستخرجت الكتاب من الرفوف وجلست، خاصة وأني سأتجاهل تلك الفكرة أثناء دخولي على أنها مجرد وسوسة، وستزداد بعد دخولي لما ألتفت إلى أن الحمام في مكتبة الإسكندرية يبعد مسافة كبيرة عن قاعة القراءة، وسأضطر حينها لأخذ كل أغراضي معي إلى الحمام لأن الهواجس ستتملكني طوال الرحلة إلى الحمام ومنه إذا تركتها على الطاولة، وسيمنعني الخجل من أ، أطلب من أحد الجالسين الانتباه لأغراضي حتى أعود، رغم أنني أفعل إذا طلب مني أحدهم، بل أنفصل تقريباً عما أقرأ حتى أستطيع تأدية مهمة الحفاظ على أغراضه على أفضل وجه ممكن، ولكنه حين يعود لا يشعر بالمجهود الذي بذلته، ويجلس دون مبالاة ولا يشكرني أحياناً. أتمنى أن تطلب مني هذه الفتاة الانتباه لأغراضها حتى تعود، وأتمنى أن تشكرني متى عادت.

يا الله لقد وصلت لنهاية الصفحة ولم استوعب منها شيئاً! 

هل علي أن أعاود القراءة منذ بداية الصفحة أم استمر دون مبالاة؟ من المؤكد أن الناس لا يحفظون ولا ينتبهون لكل ما يقرءون، ويستمرون في القراءة دون اهتمام بما أسقطوه من معانٍ أو أجزاء، على أن تتولى الأجزاء التالية توضيح ما فاتهم أو تساعدهم في تخمينه. ولكن هل سأكون مثل هؤلاء القراء الذين لا يكترثون كثيراً بما يقرأون؟ الذين يقرأون بأعينهم فقط وليس بأرواحهم وجميع ملكاتهم؟ هل سأضيع مجهود الكاتب سدى؟ هل بذل الكاتب جهداً في كل كلمة وكل حرف كتبه حتى اقرأه أنا في عجالة وغير اكتراث؟ وقد يصادف أن أتكلم مع أحدهم حول الرواية -يحتمل أن تكون هذه الفتاة- وسأجدها تحكي عن جزءاً لا أذكره فتضيق بالكلام معي لأنني قلت إني أعشق هذه الرواية ولا أذكرها جيداً. 

إن مثل هذه الأمور تحدث معي أنا فقط، أمّا من لا يقرءون بحب وشغف يستطيعون الحديث بجودة رهيبة مع الناس عما يقرؤون، إنهم قادرون دائماً على إيجاد ما يمكن أن يقال، وفي أي موقف. هل يكمن الأمر في عدم الاهتمام؟ هل إن تجاوزت ما لا أفهم بعدم اهتمام سأجد ما يمكن أن يقال؟ وإن فعلتُ حقاً هل ستتولى الأجزاء التالية فعلاً توضيح ما فاتني؟ ألا يحتمل أن يفوتني جزء مهم ومعلومة لا تعوض؟ وحينها سآتي عند جزئية معينة ولا أفهم ما يحدث، فأضطر إلى معاودة القراءة منذ شعرت بعدم التركيز. وهل سأرضى حينها بمجرد القراءة من هذا الجزء أم سأقرر القراءة من البداية تحسباً لمعلومة أخرى قد سقطت؟ حينها قد أضيق بالرواية كلها وربما لا أقرأها أصلاً.

يا الله هل لاحظتْ الفتاة أن عيني تنظر إلى نفس الفقرة منذُ جلستْ بجواري؟ لقد قلبتْ الفتاة صفحات كتابها خمس مرات على الأقل وأنا ما زلتُ أنظر لنفس الفقرة، هل سأبدو غريباً إن لم أقلب الصفحة الآن؟ وهل سأقلب الصفحة دون أن أقرأ ما فيها لمجرد ألا أبدو غريباً؟! أريد أن أرحل، أريد أن أكون في البيت حالاً، ولكن هل سأحدث ضجيجاً إذا حركتُ الكرسي لأنهض؟ هل سألفت نظرها إليّ بحق فيزداد التوتر؟ 

ومرة أخرى (بصوت أشد تجهماً): "هل أتيت للمكتبة واستعرت كتاباً لأقرأ فيه نصف صفحة؟؟"


النهاية

جميع نصوص هذه المدونة مسجلة لدى إدارة حقوق المؤلف
ويحظر نشرها أو استخدامها دون إذن كتابي صريح من مؤلفها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال