لتجربة أفضل:
صعدت سلم المركز مرتبكاً، حتى وصلت إلى الدور الأول، مساحة الاستقبال التي يجلس فيها موظف مسؤول عن ختم بطاقات الحضور بتاريخ اليوم، وبالقرب منه شباك الدفع الحديدي، ولكني لم أجد ميس هناء خلفه! ازددت ارتباكاً على ارتباكي، وانتظرت للحظات، ثم تحركت يميناً ويساراً بحثاً عنها، ولم يتكلف الموظف عناء التوضيح لي، إلا عندما حاولت التحدث إليه فارتعشت يداي وأنا أشير إليه عوضاً عن الكلام، فقال في فتور:
- خش القاعة الكبيرة لحد ما تيجي
تأجيل المواجهة، أسوأ مليون مرة من المواجهة نفسها، لعن الله مواقع الغزلان كلها. دخلت إلى القاعة الكبيرة التي لم أدخلها منذ العام الماضي، فحضور الموعد المبكر قليلو العدد، تكفيهم القاعة الصغيرة، قابلت صديقي مصطفى، رحب بي في تكلف رغم أنه صادق، وعرفت منه أن سكرتيرة مستر فضل مدرس اللغة الإنجليزية تأخذ مكان ميس هناء في الموعد المتأخر.
بدوت مقارنة بمصطفى وببقية زملائي في الثالثة عشرة من العمر، رغم أنني أبلغ سبعة عشرة عاماً، حين أكون في البيت هائماً في خيالي أنسى أحياناً أنني أقل من غيري، في الشكل والهيئة وفي وكل شيء، رغم أن الحياة لا تنفك تخبرني بذلك يومياً من خلال مواقف مختلفة مع الناس والزملاء. بقيت صامتاً مضطرباً وسط ضجيج الطلاب، قبل أن يدخل عليّ، طويل وعريض وله لحية كثيفة، بعكس وجهي الأملس وجسدي النحيف الضئيل، كان علي منشغلاً بهاتفه ولكن لمّا دلف من الباب بحث عنا بعينيه، وحين ألتقت عينانا ابتسم في شيء من السخرية، جلس بجواري ومصطفى، صافحني قائلاً:
- أخونا المختفي.. أمك عاملة ايه؟
- فراخ
لما لامس يدي علق:
- في راجل تبقى إيديه ساقعة كده؟
- وراجل صعيدي كمان!
كان ذلك مصطفى، قلتُ:
- عادي
- لأ العادي إن البنات هما اللي إيديهم ساقعة عشان بيفقدوا دم ف الدورة
ضحكتُ حتى لا يظن أنني تضايقت.
- واحشني والله هنجوزوك امتى؟
- تلاقيه مش هيعزمنا على فرحه أصلاً
- صحيح ده مبيقولناش اتفضلوا في بيته
- بس أبو علاء جدع خلي بالك
- اعزمنا وهنتوصوا بيك في الفرح.. هندخلوا صوابعنا برفق
يقصد عادة مصرية غريبة، وهي أن يقوم أصدقاء العريس ببعبصته في حفل زفافه، لأنه سيضاجع امرأة هذه الليلة وهم يرفضون أن يشعر بأنه أفضل منهم.
- أنا متخيلك وأنت مرتبط وبعتالك نودز هتصورلها ايه؟
قالها علي ضاحكاً فقال مصطفى:
- صورلها طيزك
- اه قولها أنا صعيدي من كفر الطوايز
ضحكنا جميعاً، وكان علي أن أنهض لمواجهة مصيري، ولكن حين اقتربت من الباب دخلت حبيبة وصديقتها مي، حبيبة بيضاء محجبة، وجهها مستدير، ترتدي فستاناً أزرق فاقع ونظارة طبية متدلية فوق أنفها. تلاقت عيناها المقتحمتان وعيناي المرتبكتان فأشحتُ ببصري عنها ومررت بجانبها لأخرج من الباب، ولم تكف عن التحديق بيّ بلا خجل. الجميع تغير، حبيبة وعليّ وأنا، ما حدث غير الكل، فصارت حبيبة جريئة مقتحمة، وأضحى علي لا يتوقف عن السخرية مني، وتحولت أنا من مجرد شخص يعاني صعوبة في نطق بداية الكلام، إلى شخص غير قادر على نطق اسمه.
وقفتُ أمام سكرتيرة متجهمة ذات مساحيق وجه كثيفة وشعر نصفه خارج الطرحة، الأصوات من حولي شبه متوقفة، عيني ثابتة عليها وفي نفس الوقت أتلافى التقاء أعيننا، نظرتْ إليّ في ضجر لما وجدتني صامتاً، حاولتُ التكلم لكن لساني جعل يصطدم بمؤخرة قواطعي فبدا وكأنني أتكلم بصوت منخفض، فقالت في خشونة:
- علِّي صوتك
نظرتُ إليها كأنني أدركت وجودها أمامي للتو، وبقيت صامتاً مطبق الفكين للحظات، مطت شفتيها في ضجر دون أن ترفع عينيها عن عيني، طال صمتي وتعلقت عيناي بدفتر التسجيل، ولما يئست من القدرة على التكلم حاولت أن أتكلم رغماً عني فتشنج وجهي بالكامل وأصدرت حركات غريبة بشفتي وفكي، لا أعرف كيف يبدو وجهي في هذه الأثناء، ولكني أراه في عيني من أمامي، سمعتُ فكي يطقطق من فرض التشنج قبل أن أنطق:
- عل......ال..و
بقيت ناظرة إليّ في تبلد، بينما حاولت استكمال الاسم، فقلت بصوت مكتوم:
- علـ..ااء
- علاء ايه؟
نطقتها بسهولة مستفزة، وبدون أن أتنفس قلت:
- مح..... السيد
- علاء السيد؟
- علاء... مح..مح...م (وارتعشت شفتاي ورسمت حرف و في تشنج) ..حمد
سجلت الاسم في فتور، زفرتُ بعمق شديد، سيطر صوت صفير طغى على أي صوت آخر، وتملكني شرود الذهن، قاومته كي آخذ البطاقة الجديدة إلى الموظف الذي ختم عليها بتاريخ اليوم في آلية، قبل أن أدخل للحصة..