صوت داخلي - قصة قصيرة - الفصل السادس

* * *
صوت داخلي - قصة قصيرة

لتجربة أفضل:

* * *

انهمك المدرس في شرحه، وراح الطلاب يرددون وراءه إجابات الأسئلة، وأنا بالكاد لاحظت أننا ندرس اليوم فصل من فصول قصة Gulliver’s Travels، الرؤية من حولي بها اهتزاز وقليل من الهلامية، تلك أعراض التلعثم الجانبية، ما إن أمر بمواجهة مثل التي مرت حتى أشعر بثقل في رأسي، وبأن العالم يتحرك من حولي بإيقاع مختلف، لا أدري إن كان أسرع أو أبطأ، ولكنه إيقاع مختلف، غير متماشٍ مع إيقاعي، وكأنني غير موجود أو غير قادر على الحياة فيه. أتصور ألا أحد يراني، ولو غادرتُ القاعة الآن لن يلاحظ أحد، وأفكر أن أفعل ذلك حقاً، كي أتأكد إن كنت موجوداً فعلاً، أو على الأقل أن أحرك أي شيء من حولي، القلم على سبيل المثال، لأرى إن كان سيتحرك أم لا. 

حبيبة تجلس على مقربة منا في نصف القاعة الخاص بالبنات، فالقاعة مقسومة نصفين. صوت المدرس يأتيني مكتوماً كأنما ينبعث من أسفل سحابة ثقيلة:

- He found himself in a room full of giants

سمع المدرس أحدهم ينطق الكلمة الأخيرة نطقاً خاطئاً فسخر منه:

- Giants يا ولا متبقاش فلاح

لاحظت أن حبيبة تحمل أغراضها وتترك مكانها، تتحرك ببطء، تجاهنا! جلستْ خلفي! وجلست صديقتها مي خلف علي، الذي نظر إليّ وابتسم فتصنعت ابتسامة باهتة، وواصلت التظاهر بالتركيز مع المدرس، وفي داخلي ألعن اليوم الذي حاولت فيه التقرب منها. كان ذلك قبل عام، حين كنت قادماً من الصعيد، وغير معتاد على أن يحضر الأولاد الدروس مع البنات، وبالطبع اخترت الحضور مع المتفوقين، كنت أظن نفسي إنساناً يستحق، كنت أظن نفسي إنساناً عادياً. ولفتت حبيبة انتباهي، بجمالها وأخلاقها فقد كان حجابها كامل وملابسها محتشمة

- لايقة عليك يابو علاء.. هادية ومحترمة.. مبروك عليك

كذلك قال علي حين أفضيت له بمشاعري، قال إنه يعرف صديقتها مي، وسوف يطلب مساعدتها في التوفيق بيننا، ابتسمتُ خجلاً، وغمرتني السعادة، قبل أن اصطدم بالواقع، أرسل لي علي لقطات من شاشة هاتف مي للحوار الذي دار بينها وبين حبيبة، "شكله صغنن، تحسيه أصغر مننا"، قرأت تلك الكلمات بمشاعر مختلطة، خجل وفرح وصدمة وعدم فهم، ولكن من المؤكد أنني تضايقت حين قرأت: "أنا عارفة إنه راجل ده أنا مسمياه عمو علي من كتر ما هو راجل"، كان ذلك رأيها في صديقي، التنمر على شكلي لم يكن بالشيء الجديد، فقد تعرضت له مراراً ومراراً، ذات مرة في الصعيد خرج زملاء المدرسة خلفي بعد انتهاء اليوم الدراسي وجعلوا يهتفون:

- يا صغير يا صغير

وقد عرفوا في البيت بأمر تلك الحادثة، أما حادثة حبيبة فلن أستطيع بالتأكيد أن أحكي عن محاولتي الارتباط بفتاة. ما يؤلم هو أنني كنت متصالحاً إلى حد ما مع الحادثة الأولى، ولكني لم أتصور يوماً أن شكلي يحط من قدري كرجل، ويحول دون قبولي لدى الإناث، وما آلمني أكثر وأكثر هو أنني اكتشفت أن البنات جميعاً يرونني بهذه الصورة، فيما مضى كنت أعتقد أنهم ينظرون إليّ كثيراً لأنهم معجبون بي، ولكن ما حدث مع حبيبة جعلني أكتشف أنهم يسخرون مني. 

وكنت أحاول مداواة جرحي بأن أراسل حبيبة عبر تطبيق صراحة الذي يسمح لك بإرسال رسائل دون إظهار هويتك، كم كنت أسعد بأن تنشر هذه الرسائل على صفحتها، ولكنها ما كانت تنشر غير الرسائل الملفتة، لذلك كنت أتعمد المغالاة في إظهار الإعجاب حتى استفزها لأن تنشر، ما جعله تغتر وتثق في نفسها حد الوقاحة.

اصطدمت حبيبة بعلي أثناء تحركها فاعتذرت له باهتمام شديد، وكأنها اصطدمت بكسر عميق في داخلي، جرح لم يلتأم بعد، لماذا حضرت في هذا الموعد؟ ألم أتوقع هذه المعاناة؟ دائماً ما أتوقع الأفضل، أتوقع أن الأسوأ لن يحدث، وهو لا يحدث بالفعل، بل يحدث ما هو أسوأ منه.

- Stand up

قالها لي المدرس! اتسعت عيناي، ولكني وقفت بسرعة، ضحك علي وحبيبة، صغير جداً وسط حضور كبير

- What did the king say when he saw Gulliver for the first time?

سألني، وكنت أعرف الإجابة، عيون كثيرة تنظر إليّ، صمت مرعب في انتظار تكلمي، بقيتُ ناظراً إليه دون أي تعبير، لم أقدر حتى على أن أتكلم رغماً عني متحملاً تشنج وجهي وتعجب الناس من حولي، وتذكرت شيئاً، يمكن أن أتكلم بالعربية، فما دام الكلام الذي سأقول غير الذي ينبغي أن أقول سأستطيع قوله، ولكن حتى ذلك عجزتُ عنه، يبدو أن ما يحدث لي أثقل صدري بغير حدود وجمد لساني، بقيت ناظراً إليه بصمت تام، قال في غضب:

- أنت مش معانا ف الحصة ولا جاي تطمن على صحتي؟

تركني واقفاً وأشار إلى علي:

- ها وأنت قاعد

احتقن وجهي، وقال علي ببساطة وثقة: 

- He said I can’t understand how too small man is stay alive in our country

نظرت إلى علي بغيرة، دائماً ما أشعر إن هناك أحد أفضل مني، يسبقني بخطوة، أي شيء أريده سيكون هناك أحد أقرب إليه مني، مسيطر عليه، بطرق لا أعرفها ولا أستطيع القيام بها. 

نظر إليّ المدرس وقال:

- لسة قايلينها

بقى ينظر إليّ للحظات متفكراً، قبل أن يسمح لي بالجلوس، جلست والبرودة تحيط وجهي الملتهب بالخجل، أنظر إلى المدرس متظاهراً بعدم الاهتمام بضحك حبيبة الذي تعالى من خلفي

- يبقى تاني What did the king say when he saw Gulliver?

يردد معه الطلاب:

- He said I can’t understand how too small man... إزاي في حد صغير أوي كده عايش معانا؟

كررت حبيبة الجملة الأخيرة بنبرة ساخرة وبصوت تعمدتْ أن أسمعه:

- إزاي في حد صغير أوي كده!

وتظاهرت وأنني لم أسمع ما قالت.

الفصل السابع

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال