* * *
محافظة سوهاج، مركز طِمَا، كان يتردد اسمها على مسامعي طفلاً من خلال الميكروفونات المعلقة في أعمدة النور العمومية في الشوارع، فكلما توفى أحد أهل البلدة خرج علينا هذا الصوت بديباجته التي لا تنسى: "الإذاعة المحلية لمركز ومدينة طما.. أنتقل إلى رحمة الله تعالى -وإذا كان مسيحياً يقال: انتقل إلى الأمجاد السماوية- فقيد آلـ فلان، المرحوم فلان الفلاني، ابن المرحوم فلان وابناءه فلان وفلان، وابن عمة فلان وفلان"، لم أعرف طيلة حياتي مقر هذه الإذاعة ولم أر مذيعها قط، لكن صوته ما يزال محفوظاً في ذاكرتي حتى الآن، وخاصة حين كان ينبعث من ذلك الميكروفون في نهاية شارع بيت جدي، والد أمي، لكثرة تواجدي عندهم في طفولتي.
لا أعرف اسم الشارع تحديداً، فلصغر حجم المدينة كان المقيمين في منطقة ما جميعهم يكتبون في بطاقاتهم اسم الشارع الرئيسي فقط، وفي بطاقة أمي وجدي وجميع خالاتي وخاليّ كان العنوان شارع سعد زغلول، وأظن أنه ذاك الشارع الرئيسي الذي يمتد من محيط جامع أولاد علي إلى محيط جامع الجاحر، ويتوسطه مدرسة التربية القومية الابتدائية القديمة قبل تغير مقرها. وقد كانت مدرسة التربية القومية هذه مدرسة أمي وإخوتها جميعاً، وكذلك كان يعمل بها والدها -جدي- عاملاً، أو فراشاً كما يقال، وكذلك عمل خالي، ولكنه عمل في مدرسة صلاح سالم الإعدادية، بجانب عمله في مصنع بلاط، قبل شيوع السيراميك.
بعد مدرسة التربية القومية القديمة يهبط المار في شارعها إلى الأسفل ثم يمرق يساراً ويمشي في استقامة متجاهلاً منعطفاً صغيراً حتى يصل إلى نهاية الشارع فيجد بيت جدي جهة اليمين قبل آخر زقاق. كان البيت مكوناً من طابقين، الأرضي يسكنه خالي وزوجته وأولاده، والثاني تقيم به زوجة جدي وبناتها الخمس. وكان الدور الثاني مسقوفاً بجريد نخل يزيد حرارة الشمس حرارةً، ما يجعل الشقة مكاناً مثالياً للبق يعثو في جدرانها، ويجبر سِتي على رش التوكسفين باستمرار طوال الصيف، رائحته النافذة مازلت أذكرها كما أذكر لونه البنفسجي المزرق على الحائط. كانت شقتها تتكون من ثلاث حجرات وصالة، ومطبخ وحمام، وعند نهاية السلم أمام باب الشقة كانت تقيم ستي عشة دجاج. الحجرة الأولى للجد بمفرده، لم ألاحظ أبداً غرابة هذا الوضع في طفولتي، لكني أدركت فيما بعد أن علاقتهما باتت مختزلة في خدمتها له، حيث تدخل له الطعام والشراب وتسخن له المياه للاستحمام إذا صرخ منادياً: "حَمّي مية يا بت"، أما الجوزة خاصته فكان يتولى أمرها بنفسه حسبما أتذكر، فيعدها ويتعاطاها ثم يغسلها وينظفها.
والغرفتين الباقيتين لا أذكر تقسيماً واضحاً لهما على أفراد الأسرة، ربما لأني لم أكن أبيت عندهم وإذا أتيت صباحاً يكن قد استيقظن، ولكني أذكر جيداً أن خالتي قبل الصغرى كانت تنام في الغرفة المطلة على الشارع والزقاق من جانبين من جوانبها الأربعة، وكانت تعلق فوق سريرها وفي الدولاب الموجود في نفس الغرفة ملصقات لمهند بطل المسلسل الشهير نور ومهند، وكذلك صوراً لتامر حسني، سمعتها تقول ذات مرة: "أدفع نص عمري وأقابل تامر حسني"، لم يكن فيلم عمر وسلمى تنقطع مشاهدته في منزلهم أبداً حين أطلق حديثاً، فقد كانت قناة ART حكايات إذا ما اشترت فيلماً جديداً تعيد تشغيله مئات المرات دون فواصل، باستثناء حفل أوبرا بين إعادة وأخرى، وكذلك لا تنقطع مشاهدة مسلسل نور ومهند والعشق الممنوع، وغيرهما، في حين كانت تتابع سِتي مسلسلات مثل حدائق الشيطان والرحايا، وكنتُ أفضل مشاهدة راجل وست ستات وسلطة بلدي والعيادة، ولكن بصعوبة كنت أستطيع مشاهدتهم لعدم اهتمام أهل البيت بهم، كما كنت أُمنع -أحياناً- عن بناء البيوت بشرائط الكاسيت الغزيرة التي كانت لديهم، كان لديهم الحق في الخوف عليها من الكسر والتلف، لكني كطفل كنت أرى في رغبتي كل الحق.
كانت سِتي تعد أعظم محشي في التاريخ، وطبيخ أحمر بالتقلية -أو(طبيخ بالدمعة) كما كانت تسميه- لم آكل في حياتي أطعم منه ولا أفضل تسبيكاً، السبب الوحيد الذي يبرر نحافتي الملفتة هو أنني لست ابناً لهذه المرأة، فحتى أبسط الأطعمة مثل البيض المقلي وما شابه كان يخرج من يديها بطعم وجودة لا مثيل لهما، ولم تكن تضيف شيئاً يذكر إلى الطعام، كنت أراقبها أثناء إعداده فلا أجدها تفعل شيئاً جديداً، ولكن لسبب ما ورائي كان طعامها رائع وطعام أمي لا يحتمل.
كانت أمي عنيفة إلى حد بعيد، خاصة معي، فما كنت أخاطبها أو أطلب منها شيئاً حتى تصرخ عليَّ: "يا أصفر يا طاقق يا مروهق"، معظم كلماتها لم أعرف لها معنى حتى الآن، ولكني لم أنساها، كنت أكرهها وأحب أبي، ولكني أدركت في جملة ما أدركتُ مؤخراً أن الجميع كان قاسياً، كل بطريقته، وأنها لم تكن الشخص القاسي الوحيد في المنزل كما كنت أظن طفلاً، ولكن بسبب اندفاعيتها الطاغية كانت قسوتها ملفتة، ورغم ذلك لم يخف عليّ في الطفولة التغير الملحوظ في جو البيت بعد عودتها من العمل، كما لو كانت إضاءة البيت تزداد وجدرانه تتسع، وكانت تصفو أحياناً قليلة وتضحك!
هكذا كانت الحياة في بيتنا وبيت جدي القريبين جداً من بعضهما، فقبل بلوغ بيت جدي إذا انعطف المار يميناً واستمر في المشي حتى يصل إلى مفترق، ثم سلك الطريق الأيمن يجد بيتنا قابعاً في نهاية الشارع جهة اليمين، ومن بعده تبدأ أرض زراعية منحدرة عن الشارع بارتفاع بضعة أمتار. توزعت سنين عمري الأولى بين هذين البيتين، قبل أن تتلقفني الانتقالات، عشتُ حياتي حتى الآن في ثمانية بيوت مختلفة! بين سوهاج والإسكندرية، وكانت الإسكندرية هي الحلم الذي نتطلع إليه دوماً، بناء على الاعتقاد الراسخ بأن المدن الكبرى أفضل وأرقى من الصعيد والريف، ولكنها تكشفت عن مكان عادي، بل مزدحماً مربكاً تتطاير فيها الساعات بسرعة عجيبة، لن أنسى اليوم الذي قضيته في سوهاج بعد سنين من الحياة في الإسكندرية، وشعرت بأن مقداره خمسة أيام من أيام المدينة، ولكنها عقدة أشبه بعقدة الخواجة.