سر مشهد الأسانسير.. تحليل شخصية ارثر فليك وعلاقة المرض العقلي بالنفسي

آرثر فليك

بطل فيلم الجوكر، من إخراج تود فيليبس وبطولة خواكين فينيكس. يعاني آرثر من مرض عقلي يسبب الضحك المفاجئ غير المتناسب مع الموقف، يعمل آرثر كمهرج ويخطط لأن يصبح مؤدي مواقف كوميدية، ولكنه يواجه اضطهاد غير مبرر من الناس خاصة حين يضحك بغير إرادته.

الجوكر آرثر فليك


لتجربة أفضل:


الجوكر آرثر فليك والاحتياج للاهتمام

يولد الإنسان بحسب علم النفس ولديه احتياج أساسي وهو أن يكون مرئي ممن حوله، Need to be seen/recognized، ولذلك نجد الأطفال في سنين عمرهم الأولى يبذلون كل الجهد فقط لجذب الاهتمام. وهذا الاحتياج حين يلبى، يشعر الطفل بأنه موجود ويستحق، وحين لا يتشبع بما يكفي في الطفولة، يتجمد الإنسان عنده، ويصبح على كبره طفلاً في الداخل، يحاول جذب اهتمام من حوله بشكل مرضي، وباستراتيجيات أكبر وأكثر تعقيداً، وتلك كانت أزمة آرثر فليك بطل فيلم الجوكر. ونشير هنا إلى المشهد حين استقل آرثر فليك المصعد مع جارته صوفي وطفلتها، فجعلت الطفلة تردد كلام الأم، حتى قالت لها الأخيرة: "نعم نسمعك يا جيجي" ثم نظرت لآرثر، ووضعت يدها على رأسها كأنها مسدس، وأطلقت منه رصاصة، فابتسم آرثر، ثم بعدما خرجا من المصعد ناداها، وكرر الحركة بشكل تمثيلي، ما تعجبت له الجارة، ولكنها ابتسمت له مجاملة. وهنا ليس فقط يتجلى احتياج آرثر للاهتمام بشكل طفولي، بل إن الكاتب أراد التأكيد على هذه المعلومة، فجعل المثير الأول لها الطفلة ابنة صوفي، التي جعلت تكرر كلمات أمها، فقط لأجل أن تشعر أنها تراها وتهتم بها. وقد ظهرت رمزية المسدس الخاصة بفيلم Taxi Driver أول ما ظهرت في هذا المشهد تحديداً، حتى يشير صناع فيلم الجوكر إلى هذا الاحتياج الطفولي، الذي عانى منه أيضاً بطل فيلم Taxi Driver، فقد ظهر في بعض المشاهد -شأنه شأن آرثر فليك- يحدث نفسه بمفرده، ويتخيل أحداثاً ويتفاعل معها، وهو أحد الأعراض الشهيرة المقترنة بالاحتياج الطفولي إلى الاهتمام.

ونلفت هنا إلى أن آرثر قد كتب في كراسة خواطره بشكل واضح ومباشر: "أريد من الناس أن تراني"، حيث كان يحكي عن موقف شاهده في الشارع، لرجل ملقى على الأرض ميتاً، والناس تتحرك من حوله بغير اكتراث، فكتب أنه لا يريد أن تعبر الناس عليه هكذا، يريد منهم أن يرونه، يريد أن يكون موته ذا قيمة أكثر من حياته، ولعل هذا السبب الذي دفعه للتفكير في الانتحار على الهواء مباشرة في برنامج موري  فرانكلين، قبل أن يغير الخطة تحت تأثير استفزاز موري.

الجوكر آرثر فليك


آرثر فليك أكثر تعقيداً 

وقد عانى آرثر فليك في طفولته من قسوة شديدة، نشأ لدى أم غير بيولوجية ذهانية، حين ظهرت في أحد المشاهد في صغرها حيث يسألها الطبيب عن إصابات ابنها الخطيرة قالت إنها لم تسمعه يبكي أبداً، بل كان دائماً طفلاً سعيداً، ولهذا أطلقت عليه لقب "Happy". وبذلك لم تقتصر معاناة آرثر على احتياج نفسي أساسي للشوف والاهتمام، بل كان المحيط يحاول إقناعه بعكس حالته، وقد خضع لذلك، فقرر أن يكون مهرجاً ومن ثم كوميدياناً، ونراه في أول مشهد في الجزء الأول يحاول إرغام وجهه على الابتسام، ولكن الدموع تصر على النزول. وقد تعامل المجتمع مع آرثر بنفس طريقة الأم، والتي تبناها هو أيضاً، بل وتبناها عقله! فجاءت الإصابة الدماغية التي تسبب ضحكه المفاجئ غير المتناسب مع الموقف، وكأنها ترجمة عضوية لحالته النفسية؛ حيث يصيبه ضحك هيستيري في حين يستعر قلبه حزناً. 


استمرار سوء فهم المحيط لآرثر فليك

وحين تورط آرثر فليك في القتل شعر بوجوده، لأنه كالطفل الذي يختبر التعبير عن المشاعر لأول مرة، فقد سمح لغضبه أن يخرج ولم يحاول كبته بالتظاهر بالفرح والتقبل، ونلفت هنا إلى ما قاله لمعالجته حين قتل أول مرة: "طوال حياتي لم أشعر أنني موجود، لكنني أشعر بذلك الآن، والناس بدأوا يلاحظون وجودي". وكان يقصد بالعبارة الأخيرة حديث الناس عن جرائم القتل التي وقعت، وهنا يبرز مدى احتياجه للاهتمام؛ فقد كان سعيداً لأن الإعلام يتحدث عنه، حتى وإن كانوا يصفونه بالوحشية، وكان سعيداً أكثر لأن الفقراء تأثروا بما فعل، حتى وإن لم تكن قضيته الفقر والغنى. لقد كان يساء فهمه قبل أن يقتل بأن يعامل كأنه سعيد وهو ليس كذلك، واستمر سوء الفهم بعد أن قتل، فتأثر الناس به وأحبوه لأسباب غير التي قتل لأجلها! وكان آرثر سعيداً بذلك، نراه ينظر إلى أحد المحتجين لما وجدته يرتدي قناعه بابتهاج وسرور.

الجوكر آرثر فليك
الجوكر آرثر فليك


مشكلة آرثر فليك في الجزء الأول

بحسب علم النفس يحتاج الشخص إلى علاقة وحيدة يحصل فيها على تقبل صادق، حتى يستطيع أن يتعافى مما أصابه في الطفولة، وهذا ما لم يوفق آرثر فليك في الحصول عليه في الجزء الأول، لقد توسم في موري فرانكلين أن يحبه ويحترمه، وخذله، وحاول بخياله أن يواعد جارته واصطدم بالحقيقة، ولكنه حصل على ذلك في الجزء الثاني، ما سنوضحه فيما بعد، أما الآن لنركز على الجزء الأول، ونلفت هنا إلى أحلام اليقظة التي تخيلها آرثر في بداية الفيلم، حيث يظهر في برنامج موري ويعجب به الأخير ويحتضنه، ونلفت إلى الابتسامة الطفولية على وجه آرثر، حين وقف وسط الجمهور وتسلط الضوء عليه.

الجوكر آرثر فليك

وكان الجوكر يضحك رغم أن المدينة تحترق من حوله، وجسده مصاب، بل استخدم الدماء ليرسم الابتسامة على وجهه، ويرفع ذراعيه وسط الناس الذين يفهمون قضيته بشكل خاطئ، فقط لأنه يشعر أنه موجود.

الجوكر آرثر فليك


مشكلة آرثر فليك في الجزء الثاني

ترجع أزمة فيلم الجوكر الجزء الثاني إلى سببين: الأول متعلق ببناء قصة الجزء الثاني نفسه، وخلوها تقريباً من الأحداث، لاعتمادها بصفة أساسية على أحداث الجزء الأول. أما الثاني والأهم في سياق حديثنا، فهو نهاية الجزء الأول، التي اعتنق فيها آرثر الجنون والقتل كحل درامي للقصة، والتي دفعت المشاهدين إلى الاعتقاد أن تلك رسالة الفيلم. ما جعل المشاهد يدخل الجزء الثاني منتظراً المزيد من الجنون، تماماً مثل شخصية هارلي كوين (ليدي جاجا)، ولمّا لم يجد المشاهد أو هارلي هذه الرسالة انقلبوا على وجوههم غاضبين.

ونشير هنا إلى أن الجميع استمر في سوء فهم آرثر فليك، هارلي كوين والفقراء الثائرين، وحتى محامية الجوكر ومعالجته النفسية، حيث حاول الأخيران إثبات أنه يعاني من انفصام في الشخصية، وأن الجوكر ليست شخصيته. وبذلك استمر الجميع في عدم تقبله، استمروا في التعامل مع مشاعره بشكل عكسي، لم ينظر أحد منهم إلى أنه كان غاضباً وحزيناً ومضطهداً، ولذلك كله ارتكب الجرائم، الجميع يتجاهل حقيقته، وما يحتاج آرثر إلا لشخص واحد يتقبله، ليس في حاجة إلى جبل ولا تلال، إنه في حاجة إلى علاقة صحية. ونلفت هنا إلى الفراغ العاطفي المرعب الذي يعاني منه، والذي دفعه لتقبيل شفتي المحامية، بعد أن تقربت منه هارلي كوين، وكأن قربها منه حفز ما بداخله من سيال مشاعر مكبوتة، فدفعها للخروج بأي طريقة وتجاه أي شخص. 

(أقرأ أيضاً: تحليل شخصية حسناء النهار.. على قدر الحسن يأتي التعقيد)


نهاية آرثر فليك

قُتل آرثر على يد أحد المنبوذين مثله، وبذلك يشير الفيلم إلى أنه حتى المضطهدين أمثاله عاجزين عن فهم حقيقته، وبالتالي عاجزين عن فهم حقيقة أنفسهم وتقبلها. وينتهي الجزء الثاني بنفس الأغنية في الجزء الأول (That’s Life)، وكأن صناع الفيلم يقصدون أن الألم في الحياة سيستمر ويستمر، حتى بعد موت الجوكر، خاصة وأن له طفل ينمو في بطن هارلي كوين. ولكن لا يريد صناع الفيلم إصابة المُشاهد بالإحباط، بل يحاولون حثه من خلال المغالاة في الحزن على تغيير الوضع، حتى يتحلى بالتقبل والتفهم تجاه الآخر.

قال مايكل مور الناشط السياسي والمخرج: "عليك -كصانع أفلام- ألا تجعل المشاهد يخرج من الفيلم مكتئباً، بل غاضباً"، لأن الغضب هو ما يحفز المشاهد على التغيير، في حين يدفعه الاكتئاب دفعاً نحو السلبية، ونرى أن صناع فيلم الجوكر أخفقوا في ضبط هذه المعادلة، فأساء المشاهد فهم الجزء الأول، وعليه غضب أشد الغضب من مشاهدة الجزء الثاني.

(أقرأ: حكاية إكسسوارات الجوكر.. المسدس يشترك في البطولة)

تم.

أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال