قلب الليل
في مقالنا نتناول تحليل رواية قلب الليل، كيف حاول جعفر الراوي تسييد العقل؟ وما علاقة ذلك بماضيه وجده الذي يلعب دور الإله؟
رواية قلب الليل للكاتب نجيب محفوظ، صادرة عن مكتبة مصر عام 1975م، الفيلم سيناريو محسن زايد وإخراج عاطف الطيب، بطولة نور الشريف. يدور قلب الليل حول جعفر الراوي الذي يقرر الثورة على جده المتسلط، ويترك حياة الترف ويعمل كفنان ومن ثم صاحب مذهب نظامي.
بذور أزمة جعفر الراوي في قلب الليل
بعد وفاة الأب ومن ثم الأم يعيش جعفر الراوي الطفل مع جده، المعروف عنه التقوى والتدين، وفي نفس الوقت كان للجد شغفٌ بالموسيقى واستمتاعٌ خاص بها.
وقد قرر الجد أن يصبح جعفر حفيده أزهرياً، وقرر أن يكون زميله شكرون مطرباً وتولى الجد الأخير برعايته، ما أثار غيرة جعفر فرغب عن طريق الأزهر وآثر الفن، لكن الجد ردعه.
وهنا نجد أن الجد أولاً اختار بمنتهى التسلط مصير الطفلين دون الاهتمام برغباتهما الشخصية، وثانياً كان يعد طريق الفن والموسيقى مكروهاً رغم أنه يستمتع بهما جداً.
وقد رأى الجد أن الطريق الأزهري مخصص للأعلى شأناً مثل جعفر حفيده، في حين كان يعد طريق الموسيقى التي يستمتع بها من شبه الرذائل.
ما يلفت إلى أن قدرة الجد على التوفيق بين العقل والقلب، بين الدين والحياة، ولكن بشرط أن يكون التدين هو الظاهر ولا شيء غيره.
ولا يقبل الجد أن يكون ابنه أو حفيده شيئاً غير مثيل له، كما أن الجد يعاني خللاً في موازين التواصل، فحفيده الذي يحب يريد أن يكبت حريته، وشكرون الذي لا يهتم لأمره يسمح له بهذه الحرية.
ولنركز جيداً على مسألة العقل والقلب، الدين والحياة، العلم والفن، الإنسان الإلهي والإنسان الدنيوي، حيث إن رواية قلب الليل تتمحور تمحوراً كاملاً حول التوفيق بين كل اثنتين منهما.
قلب الليل وثورة جعفر الراوي
في مقتبل شباب جعفر الراوي بطل قلب الليل يحلم بأبيه فيناوله من طعامه، ثم يحدث على حد وصف جعفر أن يبعث مارداً في داخله يحثه على الثورة والحب، فيغرم بمروانة، ما يثير غضب الجد، ويقرر جعفر الثورة عليه والرحيل عن بيته.
وقد ذكر جعفر الراوي بوضوح في أحد مشاهد قلب الليل إن جانباً منه كان يتعقب الجد للانتقام منه.
وقد رفض جعفر في مشهد آخر تفسير الموظف الذي جالسه ليحكي له حكايته أن ما حدث كان نتيجة طبيعية للكبت الذي تعرض له جعفر في الطفولة فيما يخص أمر الأزهر والموسيقى، ما يؤكد على أن هذا هو التفسير الصحيح.
بمنتهى البساطة، إن بطل قلب الليل بثورته غير المبررة إلى حد كبير من أجل مروانة والحرية، وإصراره على حياة التصعلك بهذه الحدية والاندفاع، ما هو إلا طفل ما يزال متأثراً بما قاساه في الطفولة من كبت.
وقد قال جعفر إنه كان يسره أن يقال عنه الفتى الذي هجر النعيم من أجل الحرية.
الفارق بين الأب والابن في قلب الليل
ذكر بطل قلب الليل في أحد المشاهد أنه قرأ بعض مقالات أبيه، والتي كان يتحدث فيها عن التوفيق بين الدين والعمل، بين العاطفة والعقل، ما يشير إلى أنهما محور الموضوع كما ذكرنا من قبل.
ولكن هناك فارق بين الأب والابن، بين ابراهيم الراوي وجعفر الراوي، هناك فارق بين البطل التقليدي والبطل السلبي، فالبطل يمشي في الطريق الصحيح ويصارع الخصم الحقيقي.
وهذا ما فعله الأب، فقد آثر الحياة مع زوجته على رغم الأب واكتفى بها، ولم يحاول أن يثبت للجد أو لنفسه شيئاً، عاش مع زوجته في سلام وحب، ومات في هدوء.
(اقرأ أيضاً: تراب الماس.. كيف تكون بطلاً؟)
أما الابن فقد كان الوجه المظلم من قصة الأب، إن كان إبراهيم الراوي فجر الحرية المضيء الهادئ، فإن جعفر الراوي مثل الظلمة في قلب الليل، فهو لم يكن يعترف أن ثورته متعلقة بالكبت الذي واجهه في الطفولة، والغيرة من محمد شكرون.
وكان الأسوأ أنه حينما ثار على جده ساعده شكرون وسانده، ولو كان شكرون عارضه وقسى عليه كان سيجد جعفر سبباً حاضراً للكراهية والغيرة، ولربما تخلص في مواجهتهما من مأساته، ولكنه وجد من شكرون كل الحب والمؤازرة، فازدادت الأمور سوءاً.
لم يكن جعفر الراوي قادراً على تحدى الجد تحدياً مباشراً في رحلة الصعلكة للتخلص من آلامه المكبوتة، وكذلك لم يجز أن يتحدى شكرون، فسرعان ما لفظ حياة الفن وراح يبحث عن سبيل وشخوص آخرين يتحداهم.
الحياة بين العقل والقلب في قلب الليل
ولأن بطل قلب الليل متأثراً بالماضي عجز أن يتمتع بما وهبته الحياة من فرصة ذهبية، وهي أن يتزوج من هدى صديق، وهي امرأة ثرية تحبه بصدق وتخلص له، وتهيء له من رغد الحياة ما يوافق الكبرياء.
لقد كانت هدى صديق المثال على التوفيق بين العقل والقلب، حتى إن بطل قلب الليل قال إن مروانة عبقرية في لعبة الجسد، ولكن هدى تسمو بالجسد إلى مستوى القلب.
وبحسب علم النفس يوجد أربعة أنماط للمرأة في عقل الرجل، حواء، هيلين، مريم، وصوفيا، الأولى رمزٌ للأمومة والعطاء، والثانية رمزٌ للرغبة والشهوة، والثالثة رمزٌ للحب العذري، والرابعة رمز للحكمة.
وبحسب مستوى نضج الذكر يأتي تفضيله لأي منهن، فالذكر الذي يبقى طفلاً مهما كبر يفضل الزوجة التي تعطيه وتدلله مثلما كانت تفعل أمه، فيفضل حواء، ويجد صعوبة شديدة في التوفيق بين العطاء وبين الرغبة الجسدية؛ لأنه لا يجد في حواء نسخة هيلين أو غيرها.
وأعلى مراتب النضج النفسي حين يرغب الذكر في أنثى صوفيا، التي تجمع بين تذيب الفوارق بين كل النماذج، وتجمع بين العطاء والمتعة والطهر والحكمة، وكانت هدى صديق من هذه النوعية، كانت قادرة على التوفيق بين أمور العقل والقلب.
ولم يكن بطل قلب الليل للأسف قادراً على الوصول لمثل هذا الوعي والإدراك، كان جرح الطفولة ما يزال يؤلمه، وقد لوثته التخبطات فبات مستعصياً على الاندمال.
ولذلك ثار بطل قلب الليل على حياته مع هدى وبحث عن سبيل آخر يسعى فيه، فاختار أن يكون صاحب مذهب نظامي، متأثراً بجماعة المثقفين الذين يجالسهم مع هدى زوجته، ويعجز دائماً عن مجاراتهم في الحديث عن الشيوعية والاشتراكية وغيرها.
وقد قرر جعفر الراوي أن يخلق مذهباً جديداً يوفق بين كل هذه المذاهب، ويكون العقل هو السائد، بحيث يسمو دونما جميع الغرائز، فالناس تقتل بدافع العاطفة، ولكن لا أحد يقتل بدافع العقل، إذن العقل هو ما يستحق أن يسود.
ولكن جعفر سيقتل آخر المطاف بدافع العاطفة وفي سبيل رسالة العقل، فأين ما يدعو إليه وما ينشده؟
قلب الليل بين الرواية والفيلم
يجدر الإشارة هنا إلى الفارق الجوهري بين بطل قلب الليل في رواية نجيب محفوظ وفي الفيلم الذي كتب السيناريو له محسن زايد.
في الرواية استفاض نجيب محفوظ في شرح رسالة البطل، ومذهبه في التفكير العقلي، وكذلك الخطوات التي سار عليها حتى استخلص مذهبه، في حين لم نر مثل ذلك في الفيلم.
ما جعل قارئ قلب الليل يتعاطف مع البطل، بل ويتفكر معه، بينما كان مشاهد الفيلم يشعر بالسخف الشديد تجاه رحلة البطل، فحتى وإن كان البطل سلبياً، لابد من أن يكون محل إعجاب.
(اقرأ أيضاً: مراجعة رواية موسم صيد الغزلان.. والمذهب البحثي للبطل)
نهاية قلب الليل في الرواية والفيلم
يقتل جعفر الراوي سعد كبير، لمّا يسخر من مذهبه، ثم يسجن ويحرم من ميراثه، ويخرج فيجد فيلا جده وقد تحولت إلى أنقاض تغزوها القمامة، وقد ذكر جعفر أنه يقيم فيها لأنها ميراثه، وكأنها رمز لمما فعله فيه الجد، فقد عاش الجد حياته في الزهو والرخاء، وترك لحفيده ميراثاً من التشوه والجنون.
لقد لعب دور الإله وما يجوز بإنسان أن يلعبه، فما نتج عنه سوى الخراب.
ويُحسب لسيناريو قلب الليل أن في المشهد الأخير يقابل جعفر الراوي محمد شكرون، وكأنه يعود بنا إلى الشخص الذي حفز الثورة في الطفولة لدى البطل، وأحدث نتيجة وجوده الكبت الذي آل بالبطل إلى ما آل إليه من جنون وضياع.
(اقرأ: صوت الحرية تحليل سيناريو ميكروفون)
تم.
أكتب لنا رأيك في التعليقات، وشارك المقال ليصل للمزيد من الأشخاص.