الحب في محطة الرمل - قصة قصيرة

* * *

الحب في محطة الرمل
رسم: إسراء خلف الله
* * *

مساءً، تجاوزت المنشية لمّا دلفت يمينا في شارع في بدايته عدة ماكينات سحب آلية، داخله وعند تقاطعه مع شارع عرضي بائعو ملابس يفترشون بضائعهم على الأرض، انزعجت من وجودهم فقد قررت الخروج يوم الأحد تحديداً حتى أتجنب الزحام، تجاوزتهم وأكملت السير إلى الأمام متجهاً لمحطة الرمل، منشغلاً بالبحث عن حوار يدور بيني وبين محبوبتي المتخيلة، فبطبيعتي أجد صعوبة كبيرة في خلق المواضيع عند التعامل مع الناس، يا لها من لعنة في الحقيقة لا تنفك تطاردني حتى في الخيال!

رأيت بائع عطور يقف خارج المحل ليعطي الناس أوراقاً طويلة ورفيعة بها رائحة أحد منتجاتهم، لم أشأ أن يعطيني واحدة، جلعتُ أنظر إليه متحيناً اللحظة التي أقول له فيها شكراً، وعلى عكس المتوقع لم يحاول معي، ولكني مندفعاً شكرته دون أن يتكلم! ضحكتْ محبوبتي معي على هذا الموقف، انصرفت عن التفكير في موضوع، ورحت أفكر كيف أني خجول وانطوائي، أخرج للتمشي بمفردي من حين لأخرى، أعيش حياة كاملة في خيالي، كم أنا خليق بأن أكون كاتباً، ووجدت في ذلك طرف الحديث فتخيلتها تقول لي:

- حاساك هتبقى كاتب مشهور

ابتسم بحماس: 

- كَفّي بيقول كده

شعرت أنني أتكلم مثلما يتكلمون في الأفلام، ولكنها لا تدعني أخجلُ مما قلت إذ تتجاوب معي قائلة:

- بتعرف تقرا الكف؟

- آه لما يبقى الصباع ده (وأشير في حماس إلى بنصري) أطول من ده (ثم إلى السبابة) بيبقى معناها شهرة للبني آدم

تفرد يديها الرقيقتين بحثاً عن هذه العلامة لـكن يخيب أملها فتقول في أسف مغنج:

- مش مشهورة للأسف

وللأسف أيضاً أعجز عن إبقاء الحوار متصلاً، كم أنا كاتباً فاشلاً!

أسير وهي صامتين مستسلمين لسماع أغنية، في أذن كل منا إحدى السماعتين، ستكون سماعتها اليسرى بالطبع، لأن بطبيعة الحال تكون الأنثى على الجهة اليسرى من الذكر، في التلفزيون وفي كوشة الزفاف وفي السرير وغيرها. شعرت أنني سأكون مبالغاً إذا قررت أي الأغاني نسمع واستمعت إليها بمفردي بالفعل، ولكني استسلمت لتلك الرغبة على أي حال، واخترت أغنية (العسل) لدنيا وائل، رغم أن بعض كلماتها يتعارض مع اللحظة، ولكن حالة الأغنية كانت مناسبة لمشاعري بطريقة ما، هذا الصوت السماوي الذي ينثال في أذني:

جوانا نوووور

قطع

قطع

اللي خفنا منه

حصل

حصل

من أمام مكتبة دار المعارف قررتُ أن أنعطف مع حبيبتي يميناً، فهذا الشارع الذي يمنعون مرور السيارات فيه -لأسباب قد تتعلق بوجود كنيسة- أفضل بكثير وأكثر هدوءً، وفيه تخوفت من إمكانية اعتراض قوات الشرطة طريقي، خاصة لو كانت معي محبوبتي، لم أر ذلك يحدث مع أي من العشاق من قبل، ولكن لسبب ما شعرت أنه قد يحدث لي. أنهينا الشارع، وأنا مستمر في البحث عما يمكن أن يقال، ولم أجد غير الكتابة موضوعاً، خاصة وأنني تذكرت أول ندوة حضرتها في حياتي، فقد كانت في مكتبة دار المعارف، وألقيت الكرة في ملعبها فتخيلتها تقول:

- ما تيجي أعملك ندوة

- ندوة!

تختلط السعادة بالخجل حين ترفع قبضة يدها إلى فمها كأنها ميكروفون، ولا أنظر حولنا لأرى ما إذا كان هنالك من يتعجبون مما نفعل، هذا النوع من التلقائية يدعو لعدم المبالاة بأي شيء سوى النهل منه

- ليه بقيت بتكتب؟ يعني ايه أكتر حاجة بتحبها في الكتابة؟

تمد قبضة يدها عند فمي لأجيب فيتزايد الخجل، أضحك أول الأمر قبل أن أبحث عن إجابة

- مش بعرف اتعامل في الحقيقة.. مش بعرف ألاقي كلام يعني

أخشى أن تفهم كلامي بمعنى عدم الرغبة في ندوتها المتخيلة فأتخيلها تواصل:

- بتعوض ده في الكتابة يعني؟

- أيوة

- بس أنت بتكتب حوار مميز جداً!

- ما هو بيبقى عندي وقت بقى أفكر في الكلام.. ياريت الحياة كانت كده

- بس ده في الحياة بيخليك تسمع أكتر ما تتكلم ودي حاجة كويسة؟

تنسى الميكروفون عند فمها هذه المرة ولمَّا تلاحظ تعيده مبتسمة وذلك ينبهني لشيء:

- أيوة بس ساعات ببقى حابب أتكلم.. هفضل ساكت لو اللي قدامي مش بيسألني كتير..... 

وأتردد في قولها ثم أقول ضاحكاً من فرط الخجل:

- زيك كده دلوقتي

تبتسم. 

انعطفتُ يساراً ومشيت قليلاً من أمام محل تحف ومقهى على الجهة الأخرى، ثم قررتُ أن أنعطف يميناً وتذكرت مشورة حبيبتي فقلت لها:

- الشارع ده أحلى

- أحلى؟ 

- أها.. ليا طريق معين كده بحبه ف محطة الرمل

ووجدت على الجدران قرب نهاية الشارع من جهة اليسار عبارة: Kiss her now، مكتوبة بالجرافيتي الأسود، أجد حبيبتي غير منتبهة فلا أتردد أن أقبَّل وجنتها اليمنى، غلبني الابتسام في الواقع، تنظر لي في دهشة وعينيها تلمعان، فأشير إلى العبارة على الحائط قائلاً:

- هما اللي قالوا

تنظر حيث أشرت، ومازالت الدهشة على وجهها قبل أن تستحيل ابتسامة سرور، وتستمر في أسئلة الندوة، ولكني رحتُ أتفكر إذا فعلة كهذه وقعت في الشارع ماذا سيحدث؟ لقد رأيت شاب وفتاة يقبلان شفتي بعضهما على الكورنيش في وضح النهار ولم يحدث لهما شيء، يبدو أن معظم الأشياء التي نخشاها مجرد أوهام تدور في رؤوسنا فقط. عند نهاية الشارع كان شاب وفتاة يسدون طريقنا، ويمشون في بطء، ربما إدراكي للحظة أن ليس معي فتاة مثله أصابني بخفقة طفيفة في قلبي، ولكن وجودها في خيالي شجعني على أن استأذنهما قائلاً:

- بعد إذن الحب

في موقف مشابه كان من الممكن أن ينفعل عليَّ الشاب بدافع ذكوريته الشرقية الحامية، ولكن ربما تلقائيتي دفعته لأن يبتسم ويفسح لي، وتحول الموقف من محزن إلى باعث على السرور، تخففت به من ألم وحدتي، وحكيتُ لمحبوبتي فضحكت. خرجنا من الشارع فوجدنا أنفسنا أمام سينما ريو، انعطفنا يساراً ثم يساراً، مررنا من أمام مطعم جاد وسينما مترو، قلت:

- بحب الحتة دي أوي أوي

- أنت بتعرف تختار الشوارع

أبتسم لها دون تعقيب 

- طيب تحب تهدي رواياتك لمين؟

سيكون وجودها وما تفعل كافياً لإيجاد الإجابة بسهولة إلا أنني سأقدم شخصية وهمية قبلها على سبيل الكاريزما 

- حد كان... موجود في حياتي وغالي عندي يعني.. و.... أنتي

تقول مبتسمة:

- يعني والله شكراً جداً.. 

يغلق الميكروفون عند هذا الحد ويسود صمت.

عندما بلغنا التقاطع قررت أن نمشي يميناً، أقول لها في حسرة:

- وهنا بتنتهي الحتت الحلوة 

فتقول ضاحكة:

- هنا بتنتهي محطة الرمل أصلاً

النهاية.

جميع نصوص هذه المدونة مسجلة لدى إدارة حقوق المؤلف، ويحظر نشرها أو استخدامها دون إذن كتابي صريح من مؤلفها.

1 تعليقات

  1. كيوت اوي
    كنت بتخيل الشوارع و انا بقرأ
    Great vibes, looking forward for the next one🤩

    ردحذف
أحدث أقدم

نموذج الاتصال